قصيدة نبوية ” ليلة الاثنين “للشاعر : بدر الدين العتَّاق

 

أتذكرُ سَلْمَىَ والخطوبُ نوازِلُ * والأرضُ تموجُ والناسُ نوازِلُ 1
سَيَّانَ تَقْطُرُ دَمَاً يفوحُ مثانياً * من كلِ الفِجَاجِ وهَمُّكَ هاطِلُ
وأنتَ في الغيبِ المجِيْدِ تعالياً * ترقُبُ سَلْمَى والغيوبُ حوامِلُ 2
تأذنُ للبَرَايَا بأَمْرِ مَلِيكِهَا * ولا تنفكُ تهبطُ فالغُيوثُ هواطِلُ 3
والشعُثُ الغريبُ لا دَرَّكَ فيهِما * تقتادُ الشرورَ فالفصيلُ البازِلُ 4
سفهٌ ومَظَنَّةٌ والظَنُّ سَفَاهَةً * أنَّ السماءَ عقيمةٌ كذاكَ الراسِلُ 5
تَقَطَّعَتْ مُنْذُ عَهْدٍ تليدٍ أبَدَاً * أن ليسَ منْ عَوْدٍ لَهَا عَائِلُ 6
فغَدَا الناسُ بَيْنَ شَرِ حَيَاتِهْم * عاثوا فساداً فالأرض فخَامِلُ 7
قَتْلٌ وتَشْرِيْدٌ واغْتِصَاب فَتَاتِهِمِ * وتفككٌ ومُضَيَّعٌ فالرُوحُ آفِلُ 8
وتبدَّت سَلْمَى بالضِيَاع كأنَّها * تبسَّمت دَفَقَاً فالزمَانُ فَبَاقِلُ 9
تَنْشَقُّ عن شَبَقٍ تُعَانِقُ صِنْوَها * فتخضَّرُ فالخَصِيْبُ القاحلُ 10
وأمَطَرَتْ مَطَرَاً حَصْبَاؤُهُ بَرَدٌ * كذاكَ السماءَ وعْدُهَا حَاصِلُ 11
لا دَرَّ دَرَّهُمُ أنْ كانَتْ مَظَنَّتَهُم * أَقَلَّتْ جِهامَاً لا أَبَالَكَ جَافِلُ 12
حتى أَتَتْهُمْ مِنْ لَيْلِها وشُكُوِلهَا * إنَّ الشكولَ يَا سَلْمَ مَشَاكِلُ 13
طويلٌ وليْلُ الظَاعِنِينَ ظِعَانَهُمْ * عَلَىَ خَبَبٍ جَرَّدْتَها الباغِلُ 14
يا سَلْمُ لَيْلَتُكِ التي أُرِّقْتُها * وأَرَّقَتْها الصُمٌ والنجومُ أوافلُ 15
حتى أَتَانَا مِنْ تِهَامَةَ ضَاحِكاً * مستبشراً والعِيِسُ مِنْهُ حوافِلُ 16
يا بُشَرَايَ هذا نَبِيٌ قَادِمٌ * مِنْ غيْبِ الوجودِ فنازِلٌ ومَنَازِلُ
غيَّابُ الغيوبِ وبَعْثُهُ مُتَأَمَّلٌ * ما أقلَّتْ سَحَاباً فالكتابُ أوامِلُ 17
ولا أظلَّتْ غَمَامَاً يرتجيك مَحِلُّها * فَتَخْصَبُ قُلوبٌ حِلٌ حلائِلُ 18
فكلُ الوجُودِ سَرَىَ وحَفِيٌّ بِهِ * مِنْ ذاكَ السُرور طوياتُ وزَائِلُ
نَسَمَاتُ فَجْرٍ للحَياةِ جَدِيْدَةٌ * ومَحِلُهَا أرضٌ فالحِجَازُ فنافِلُ
يا سرَّ ليلٍ ضَنَّ السماءُ بِهِ * إذ تفجَّرَ ينبوعَاً وأُبْغِتَ جاهِلُ
والذي ظنَّ والظنُ مَسَبَّة * للجاهلينَ بأمِرٍ فالسماءُ فواصلُ
أَيَا سَلْمُ كَمْ من عُيُونٍ شَاقَها * بَرْدُ اللقاءِ غِيَابٌ ماطِلُ 19
فاحْتَضَنَتْ بدِفءِ المَشَاهِدِ كُلِّهَا * وَزُفَّتْ للوجودِ اثنينٌ بِهَا آيِلُ 20
وأشْرَقَتْ بِنُورِ مَلِيكَهَا وبوجْهِهِ * ذاكَ المُحَيَّا فالوجهُ فمَاهِلُ
وأهداكمُوا من الغَيبِ شَهَادَةً * مُحَمَّدٌ طَبُّ وطبيبٌ راسِلُ
يا ليلةَ الاثنينِ جُدْتِ جَوَادَةً * حَفَّلَتَهَا لحظةٌ كَمُلَتْ فناهِلُ 21
فَهَلْ كُنْتِ تَرْقُبِينَ مجِيْئَهُ سَلْمَىَ * أمْ لا أبالَكِ سَلْمُ مشاغِلُ
والنورُ شَعْشَاعٌ يَدِقُّ بَرِيقَهُ * جَلَلاً لا أخالكَ قوامٌ طائِلُ 22
والروحُ ما الروحُ التي تَأْلَفَهُ * أَيَا خَلِيلَ اللهِ كَيْفَ أُسَائِلُ
والوجه وضَّاحُ المُحَيَّا باسِماً * هِلَالٌ شَقَّ الظلامَ فهائِلُ
والكَفَّانُ منه شَواثِنٌ ما مِثْلُهُ * هِزَبْرٌ أغْلَبٌ أو شتَّانَ وماثِلُ 23
فالنفسُ شَغِفٌ والروحُ راحَتَها * والشوقُ خَالَطَهَا بدْرٌ نائِلُ
ما الشمسُ سارجُةٌ ولا البدرُ * نَارَتُه ولا الكونُ فقيلَ وقائِلُ
ولا النورُ أضاء َعَتْمَتَهَا ولا * الصُبْحُ كافِيْهَا ولا هو حائِلُ
ولا هزارٌ غَنَّ وادِيِهَا طَرَبَاً ولا * هَدَلَتْ بِجَنْبِها أَيْكٌ أو هادِلُ
ولا ترنَّحَ غُصْنٌ بَدَا فِيْهَا * ولا فيافِي قَلَّ موردها أو قائِلُ 24
كَمْ تَفَتَّقَ زَهْرٌ واسْتَشَنَّ بِسَاقِهِ * يَفْتَّرُ عَنْ حَدَا أو هو عَاقِلُ 25
يَسْتَأْنَى شَفَقٌ عَجْلانَ مَطْلَعَهُ * وأَيْهَقَ الغَسَقُ المَيْمُونُ فصَائِلُ 26
ما فَاهَتْ مِنْه تَبَسُّمَ ضَاحِكٍ * يُجِيْبُ هذاك المادِحُ أو نَاقِلُ
يَمَمٌ يَمَّمَتُها بِشَمَائلِهِ التي * ما شَالَ مِنْهَا واحدٌ أو شَامِلُ 27
وَيَتْبَعُهَا شُلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلٌ * يحاكي شَمِلَ المنازلِ شائِلُ 28
يَا لَيْلَةَ الاثْنَيْنِ أشْرَقَ يَوْمُهَا * وَيْهَكِ مَجَالِي فالحُسْنُ فَجَائِلُ
صُبِّيِ عَلَى الأكوانِ محَبَّةً * مِنْ عَذْبِ حديِثِهِ فأنَا آمِلُ
فهو قَدْ فَاضَ الوجودَ بِنُورِهِ * وملأَ العُيُونَ كَمَالَهُ فَتُمَاثِلُ
عَشَمٌ بِرَبِّكِ لا يَنْقَضِي وَطَرَاً * أَجَابَ الخُلوقَ ومِثْلُهُ راجِلُ
للمادِحِ مُنْشِدُ قَصِيْدَتِي مَثَلاً * لَيْلَةَ الاثنَينِ فمُسْمِعٌ فمَواصِلُ
ولا كَانَتْ سَلْمَىَ بِنَجْدِ تِهَامَةٍ * ولا نَالَ بِجَاهِكِ حُسْنُهُ واغِلُ 29
صَبَأْنَا الكَأْسَ حَتَّىَ تَجَرَّعَتْ * لُحُونٌ ومِسْكٌ وعَنْبَرٌ وفائِلُ
فَشَرِبْنَا عَلَىَ ذِكْرِ الحَبِيبِ مُدَامَةً * رَاقَهَا مِنْ قَبْلِ البرايا نَاهِلُ 30
وَلَمْ تَزَلْ بِنَا صَهْبَاءَ دَاكِنَةً * وجَمْعُ النُدَامَى فارضٌ أو نَافِلُ
وبَيْنَ الرَوَاقَةِ والدَكَانَةِ شَعْرَةٌ * خَبِرْتُهَا فالسُكْرُ فالبِشْرُ فثَامِلُ
ولَاتَ حِيْنَ مَزَجْتُهَا بِمَحَبَّةٍ * أَشْهَدْتُهَا بِمَدْيَنَ فالرِعَاءُ جَحَافِلُ
خَمْرٌ مِنْ الشِعْرِ الرَّصِينِ خَبَأْتُهَا * مَا مِثْلُهَا البَرَدَانُ المَاثِلُ 31
وهناك ثَمَّ لَقِيْتُهَا سَلْمَى أَمَا * حَدَّثَتْكُمُ في القَلِيْبِ شَوائِلُ 32
واسْأَلْ مَنْ وَجَدْنَا مِثْلَ وَجْدِنَا * فذَاكَ يومٌ مَهِيْبٌ وحافِلُ
عَبْدُ الغَنِيِ والجُنَيْدُ سَيْدُنَا * ابنُ عَرَبِيِ فالسَكَنْدَرِيُ فواصِلُ 33
فكُلاً أخَذْنَا مِنْ الشهود بِعَيْنِهِ * وسَكِرْنَا فَمَالَتْ جَوَانِبُنَا فثَاقِلُ
وَلَيْسَ مَنْ شَهِدَ الجَوائِزَ مِثْلِنُا * كَمَنْ سَمِعَ الحُدَاةَ فقافِلُ 34
مِنْ مَهِيْعِ العِلمِ شَهَادَةَ غَيْبِهِمْ * كَذَاكَ الشُهودَ غَيْبٌ جَاهِلُ
ومَا قَصِيْدَتُنَا التي أنشدْتُهَا إلَّا * إمَارَة شَوْقٍ لا تَزَالُ وسَائِلُ
ومِثْلِي كُلَّ الخُلوقِ أَظُنَّهَا * لا تَنْفَكُ فالهَوَىَ مُحَمَّدٌ فرافِلُ
فيا رَبِّ بِحَقِ لَيْلَةِ مَوْلِدِهِ التي * نَبِيٌ أهْدَتْ للبَرَايَا حَائِلُ
أَبْلِغْ سَلَامَاً وطِبْهُ تَزْكِيَةً * مُحَمَّداً نِعْمَ النبيُّ الراسِلُ
وصَلِّى صَلَاةً لا انْقِطَاعَ لَهَا * فإنَّكَ خَيْرٌ مُصَلٍ واصِلُ
وصَلَّى الإلَهُ علَيه بَرِيِّهِ * مَا أَسْفَرَ صُبْحٌ أو تَرَنَّحَ مَائِلُ
عَلَى طَبِ القُلوبِ وشَافِعٍ * يومَ الحَشْرِ والناسُ غوافلُ
واقْبَلْهَا يَا رَبَّ العالَمِيْنَ قصِيْدَةً * زُلْفَى إليكَ فَالحُبُّ فَنَائِلُ
وشَفَّعْهُ يومَ غبينةٍ ومَذَلَّةٍ * فِيْنَا فعَهْدُ الخَائِفِينَ فزائِلُ
ولا تَرُدْنَا بِيْضَ الأكُفَّةَ خاوياً * فلولاكَ ما الاثنينُ مَوَائِلُ
إنَّ الكريمَ إذا أَجَابَ عِبَادَهُ * بِوَعْدٍ فابْشِرْ أَيُّهَا السَائِلُ

القاهرة في : ٢١ / ٩ /٢٠٢٣
شعر / بدر الدين العتَّاق

هوامش :
كتبتها من وحي جلسة استماع شعرية لأسرتي بالقاهرة بمنزل الأخ الدكتور / سامي حامد طيب الأسماء ، بتاريخ 21 / 9 / 2023 وقد تناولت الجلسة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فكانت هذه القصيدة بعدها بساعتين من نهاية الجلسة ، واعتذر لبعض الإقواء وهو جائز في الشعر كما تعلمون .
1 / تموج : تضطرب ، نوازل الأولى : واضحة ، وهي غير نوازل الثانية ، ونوازل الثانية : موافقة لموضع النزول بحيث لا يخطئ النازل موضع النزول ، ولا يخفى الجناس التام .
2 / الغيوب الحوامل : أي ما يحتمل الغيب من حمل المعارف والحوادث .
3 / هاطل : نازل بشدَّة .
4 / الفصيل البازل : ولد الناقة الجيد .
5 / الراسل : هو الله ، وهي الفكرة العامة التي كانت في العقل الجاهلي آنذاك من انقطاع الوحي وخبر السماء وبعث الرسل والأنبياء إلا في إطار ضيق .
6 / العائل : المغني المعطي الدافع .
7 / الخامل : يراد منه استكانة الناس لحالهم الذي هم عليه .
8 / البيت : مراد منه الفوضى العارمة والاضطراب المفضي لديمومة القتال القبلي كما هو معروف قديماً .
9 / الباقل : الأحمق ، إشارة إلى تباشير ليلة مولده الشريف .
10 / الشبق : اللهفة وشدة الشوق ، المراد إلتقاء أسباب السماء بأسباب الأرض من موعود البشارة المحمدية .
11 / البَرَدُ : الثلج ، قال تعالى : { وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } سورة النور .
12 / الجِهَام : السحاب غير الحامل للماء ، فيجفل أي يرتد ويرجع بعد أن يستبشر الناس به .
13 / البيت : ما يشكل ويتعدد على الخاطر ، ولا يخفى الجناس الحرفي هنا .
14 / الخبَبُ : ضرب من السير ، الباغل : البغل الحيوان المعروف .
15 / أوافل : ذاهبات .
16 / العيس : النوق أو الإبل ، الحافل : الحاملة للخبر السعيد .
17 / أوامل : متأمل ومنتظر .
18 / الحل الحلاحل : الرجال والنساء ، الأزواج والزوجات .
19 / الماطل : الطويل الأمد والوقت .
20 / آيل : راجع وعائد ، من آل إلى ، أي : عاد .
21 / البيت : مقتبس من قول الفيروزابادي :
قد حفَّلَتها حفولاً طفلة كملت * في الحسن قد صاغها لطف وتحفيل
22 / الدق الجلل : الأمر العظيم منتهى الإكبار والإجلال .
23 / الشثن : غليظ الكفين ، الهزبر : الأسد ، الأغلب : عظيم العنق ، أي ليس مثله أسد ولا شيء .
24 / القائل : من القيلولة وقت الظهيرة .
25 / تفَتَّق : تفتَّح ، استشن : قوي واشتد ، حدا : من الحادي أي سائق الأظعان وهي قافلة الإبل ، ولعلَّها تعقل قدومه وكل الجمادات أيضاً .
26 / يستأنى : ينتظر قدومه ، أيهق : تغير لونه ومال إلى السواد يستقبل الليل ، صائل : من الصولة وهي التردد من وإلى الشيء ، المراد كل الوجود ينتظر مجيئه .
27 / يمم يممتها : جهة قصدتها ، وهو التحلي بشمائله الكريمة وصفاته الجليلة .
28 / البيت : مأخوذ من قول الأعشى :
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني * شَاوٍ مُشِلٍ شُلُولٌ شَلْشُلٌ شَوِلُ
29 / الواغل : المتطفل أو الأحمق الضعيف .
30 / البيت مأخوذ من ابن الفارض :
فلنشرب على ذكر الحبيب مدامة *
31 / البيت مأخوذ من قول الشاعر عبد الله الطيب :
خمر من شعر الرصين خبأتها * ما مثلها البَرَدَانُ أو قُطْرُبُلُّ
32 / شوائل : فتاة سودانية صغيرة السن ألقيت في البئر بسبب ضياع إحدى غنيماتها التي ترعاهن وظلت بالبئر أربعين يوماً زعمت بأنَّ الذي كان يطعمها اللبن ويسقيها رجل لا تبدو ملامحه مما اعتبرت من الصالحات وتوفيت فيما بعد .
33 / وهم كبار المتصوفة : عبد الغني النابلسي ، الجنيد البغدادي ، محي الدين بن عربي ، عطاء الله السكندري .
34 / قافل : راجع ، ويمكنك تأويلها للقافلة أيضاً أيهما شئت صحيح .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.