فؤاد السعدي يكتب: مشروع قانون الصحافة.. خنجر ناعم في جسد التنظيم الذاتي
في كل مرة تتحدث فيها الحكومة عن “الإصلاح”، نتفاجأ بمحاولة منهجية لنسف روح الدستور وركائز التنظيم الديمقراطي، ولعل آخر ما صدر عن مجلس العبث الحكومي هو مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، الذي يبدو أنه فُصّل بدقة على مقاس جهات معلومة في الوسط المهني، لا هدف لها سوى إفراغ المجلس من استقلاليته وتحويله إلى أداة طيّعة داخل هندسة السلطة والمال.
فبعيدًا عن اللغة القانونية التي جاءت بها ديباجة المشروع، يطرح المتن التشريعي أسئلة مقلقة حول النوايا الحقيقية التي تقف خلف هذا “الإصلاح المزعوم”، لأنه ومن خلال اعتماد آلية الانتداب بدل الانتخاب في تركيبة المجلس، وخصوصًا في فئة الناشرين، يتبيّن بوضوح أن المشروع يكشف بلا مواربة أن التمثيلية لم تعد تُكتسب عبر صناديق الاقتراع، بل تُوزع بالتعيين، وتُنتزع بالولاء، وتُباع لمن يملك رقم معاملات أكبر أو تربطه علاقات مباشرة أو غير مباشرة بدوائر القرار السياسي والمالي. وبالتالي تحويل المجلس إلى هيئة هجينة لا علاقة لها بالشرعية المهنية، بل فقط بالهندسة السياسية المسبقة.
إن انتداب سبعة من الناشرين عبر “الهيئات الأكثر تمثيلية”، وفق معايير غامضة وغير محصّنة دستوريًا، يمنح امتيازًا مطلقًا للوبيات مالية معروفة، تشتغل داخل قطاع الإعلام بمنطق المقاولة التجارية لا بمنطق الرسالة الإعلامية، وبهذا، يصبح المجلس الوطني، الذي يفترض فيه أن يكون حصنًا مهنيًا وأخلاقيًا، رهينة لموازين القوى الاقتصادية والسياسية، لا لخيارات الجسم الصحافي الحر.
والغريب أنه حتى قبل أن يدخل هذا المشروع حيّز التنفيذ، نعرف هؤلاء المنتدبين، ونعرف الهيئة التي تضمهم، ومن يمولها، ومن يحرك خيوطها، وبالتالي النتيجة واضحة وهي أن المقاعد حُجزت، التعيينات رتّبت، والخريطة أعيد رسمها في صالونات خلفية، لا علاقة لها بصحافي يشتغل في الميدان، أو ناشر يعاني في الهامش.
فلا مجال اليوم للحديث عن “الاستقلالية” و”التنظيم الذاتي” في سياق هذا المشروع، لأنه مجرد كذب رسمي موثق في نص قانوني، لأن ما يحدث هو تهجين كامل للمجلس الوطني للصحافة، وتجريده من روحه، وتسليمه لتحالف مصالح يُمزج فيه النفوذ المالي بالولاء السياسي، وسط تواطؤ معلن من الحكومة.
الأخطر من ذلك أن هذا المشروع يُفرغ الفصل 28 من الدستور من مضمونه، ويرسّخ منطقًا جديدًا في المشهد الإعلامي يُحوّل التمثيلية المهنية إلى امتياز مالي. فالمجلس، بدل أن يكون معبرًا عن تعددية المهنة واستقلالها، يُعاد تصميمه ليصبح مجرد واجهة شكلية تُدار من خارج القطاع، خاضعة لنفوذ مركّب بين الفاعل السياسي والناشر النافذ، تحت يافطة “التنظيم”.
ولعل المفارقة المؤلمة أن هذا المخطط لا يأتي استجابة لأزمة داخل المجلس أو خلل مؤسسي، بل في لحظة سياسية تسعى فيها الحكومة إلى ضبط ما تبقى من المؤسسات الوسيطة، وترتيب البيت الداخلي للإعلام، استعدادًا لمرحلة تتطلب صوتًا واحدًا، أو مجلسًا مطيعًا، وهكذا يُستبدل التنظيم الذاتي بتحالف فُرض من أعلى، يضم أصحاب الامتيازات ونخبة مالكي النفوذ الإعلامي، الذين ظهروا مؤخرًا في صورة “هيئة مستحدثة”، لا تخفي طموحها للهيمنة على مفاصل القرار المهني، وبدعم صامت من السلطة.
بات من الواضح اليوم أن هناك مخططًا متكاملًا لتجفيف منابع حرية الصحافة، وتدجين ما تبقى من الصحافيين، وضرب مبدأ التعددية من الداخل، مخطط تم الإعداد له بعناية في غرف مغلقة، ويجري تنزيله بتقسيط محسوب، عبر بوابة قانون ناعم، وخطاب رسمي يدّعي “تطوير القطاع”.
وما يثير الريبة أكثر هو الصمت السياسي المطبق من الأغلبية، والحياد البارد من جزء من المعارضة، وكأننا أمام قانون تقني بلا أثر. والحال أن هذا المشروع هو أداة استراتيجية لإعادة تشكيل الصحافة على مقاس التحكم لا المهنية، وبما يخدم توازنات السلطة والسوق معًا.
ويتأكد أكثر أن “الهيئة” التي تم استحداثها مؤخرًا، ليست إلا الذراع الميداني لهذا المخطط، تم تأهيلها مسبقًا لتُقدّم كـ”الأكثر تمثيلية”، تمهيدًا لتمرير القانون وتسليم مفاتيح المجلس الوطني إلى مجموعة تُدار عن بعد، وتُوجّه حسب الحاجة.
ما يحدث اليوم ليس مجرد جدل حول المقاعد أو شروط الانتداب، بل تغيير جذري لقواعد اللعبة. فالإعلام، الذي يفترض أن يكون سلطة رقابية مستقلة، ييُحوّل تدريجيًا إلى جهاز إداري تابع، وسيشتغل ضمن دائرة ولاء مغلقة، وسيُدار بمنطق الترويض، والأدهى من ذلك، أن كل هذه التحولات تُقدَّم بوقاحة تحت عنوان “تكريس المكتسبات”.
فأي مكتسبات هذه، حين يُقصى الصحافي الحر المستقل، ليحل محله موظف شبه رسمي، أو شخصية رمادية معينة من فوق، لا تعرف عن الصحافة إلا ما يكفي لضبطها لا خدمتها؟
فالحكومة، بموقفها هذا، لا ترتكب خطأ في التقدير، بل تنفذ الخطة بدقة وبإتقان، فهي لا تريد مجلسًا يحاسب أو يُقلق، بل مجلسًا “مؤدبًا”، “مرنًا”، و”قابلًا للتوجيه”، يُستخدم عند الحاجة، ويُركن عند انتهاء الدور.
لهذا، لسنا أمام خلل قانوني عابر، بل أمام انقلاب ناعم ومدروس على فكرة التنظيم الذاتي للصحافة. فأي تمرير هذا القانون في صيغته الحالية سيكون إيذانًا بنهاية تجربة فتية في الاستقلال المهني، وبداية مرحلة عنوانها “التمثيلية تحت الطلب”.
إن المعركة اليوم ليست تقنية ولا تنظيمية، بل معركة وجود، فإما أن يستعيد الصحافيون حقهم في تمثيل أنفسهم، وإما فلتُقرأ الفاتحة على حرية الصحافة، لأن في لحظة كهذه، يصبح الصمت تواطؤًا، والتردد انحيازًا، والحياد وهمًا.