رشيدة الأنصاري الزاكي، تكتب: وحيدة الأحلام

الموتى يُغسّلون، وأنا كذلك كنت مُكرِمة للموت!

‏بالأمس كنت أُغسَّل استعدادا لفاجعة الأحداث، واليوم أغتسل من فواجع الأحداث!

‏أقف أمام المرآة عاريةً مني، كي أراني بكامل الصفاء وأنا أحمل هزائمي الأخيرة على هودج الخيبات، وأدخل ليلة أدونها في الغد القريب. أسترجع فصولها الجريحة كما يسترجع الصدى أصوات الغائبين!

‏يعاودني الحنين إليكَ فأستحضرك مرة أخرى، وأدمن النظر إلى الخلف، أقتني من متحف الذاكرة لوحة أعيش ولو على هامش إطارها، أيامي الباقية!

‏ربما قَطيعتي معك كل هذه السنين هي التي جعلت مني امرأة في مهب الألم!

‏أعيش ضآلتي وما استبقاه الزمن على قيد جدوى.

‏لم يكن يبهرني شيء سوى حبك الذي كان يسري في دمي بانتظام، كأنه حقنة “مرفين” جارية المفعول، رافقتني لمدة عشرين سنة!

‏حبك هو الخيط الوحيد الذي يشدني إلى أحبال الحياة!

‏خيط رقيق تكاد العين لا تدركه!

‏لكنه أقوى من أن يفسَّر، أكبر من أن يُرى، أصلب من أن يُنْخر ويَندثِر!

‏لغاية أنني أسأل نفسي الآن من كنتُ؟ وأي كائن هذا الذي يستحمل الذي استحملته دون أن ينهار، ودون أن يفكر ولو مرة في الهروب أو الانتحار؟!

‏ربما كنت أضخم من الانتحار، أو أقزم منه. فلكي نواجه شيئا كالانتحار، لابد أن نكون في مستوى قوته ولعنته!

‏لم أفعل!

‏ربما حبا في إرادة الحياة!

‏أو ببساطة حبا فيكَ!

‏فلو جئتُك منتحرة ستستاء مني، وتقول:

‏- متى كان الكبرياء ضعيفا كي ينتحر؟!

‏أنغمس في ضجيج الأحداث، أرفع كلفة الحرج عن ذاكرتي، وأسرف في استحضار وجهك وطفولتي.

‏أصنع من الماضي البعيد حاضرا، أمتطي به أمنية الخلاص في انتظار الخلاص!

‏ قلتَ لي: إن الأمر إذا عسعس، فإنه بشارة للخلاص.

‏إذن سيأتي يوم أجعل فيه الحاضر ماضيا، وأتخذ من الخلاص وسيلة، في رحلة النسيان الأبدي.

‏أنا الآن على عتبات اليقين أن قيودي كلها قد كسرها الموت.

‏ما أريده الآن: هو أن تعرف أنني لم أنسَكَ أبدا، وأن روحك هاهنا معلقة داخل قفص شهيتي إليكَ، وأنك وحدك الحقيقة اليقينية لكل مبهمات الأشياء.

‏ أريدك أن تعرف أنك حاضر داخل زمن الغياب، لأن الموت أهبلُ من أن يقتل حضورك!

‏وأنك كنت مضيئا في أفول الأحلام!

‏قلت لي يوما: إننا ننتهي بانتهاء أحلامنا!

‏وقبل أن أسألك، ضممتني وهمست في أذني:

‏- أنتِ كل أحلامي! أنتِ وحيدة أحلامي!

 

الفصل الثالث من روايتي ذاكرة الحقائب

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.