الأستاذ مصطفى سليمان يقرأ في نصوص الأديبة: عفراء علي مخلوف
بقلم الأستاذ: مصطفى سليمان /
قراءة في النصوص النثرية: “نور وقمر”
لـعفراء علي مخلوف:
(النثيرة)، كما عرضتها في مقالة سابقة، هي فن إبداعي متحرر من فخ القوافي بأي نسق من الأنساق، وفي أي سطر أو جملة، إلا ما ندر لحاجات تعبيرية تقتضي بعض موسيقا القافية.
ويلجأ مبدع النص النثري إلى الخيال المبتكر، مع صورمشحونة بالعاطفة الذاتية والمشاعر الوجدانية المتأججة والمتناغمة مع الموسيقا الداخلية اللغوية التي تشع من طبيعة إيقاع الألفاظ بحروفها التي تحمل دلالات معنوية مثل شيوع حرف الهمس والجهر.. فللحروف قدرات تعبيرية عن المعاني؛ فحرف الغين- غالباً- يدل على الغموض والاختفاء، كما في كلمات: غموض، وغابة، وغباء، وغروب، وغيب وغبش، غار…
وحرف الراء يوحي بالاستمرار والتتابع في الحدث مثل مرّ، استمرّ، كرَّ، تكرّر، فرَّ، جرّ…
وحرف القاف يوحي بالجلبة والقعقعة والصوت الاصطدامي..مثل قعقع، قرْقرَ، طقطق…ولو طبقنا هذا على الفعل (غّرقَ) لتوضحت الدلالات التصويرية المعنوية للحرف الواحد في الكلمة الواحدة.
وهناك تضعيف المقطع في الكلمة الواحدة مثل: وشوشَ، زلزلَ، وسوسَ، هَمْهمَ، دمْدمَ…
وهناك أمثلة كثيرة على الحروف الصوتية التصويرية، وذات الدلالات المعنوية المشتركة. وقد فصّل (ابن جنّي) في هذه الظاهرة الرائعة في كتابه (خصائص العربية).
الاستهلال السابق ليس اعتباطيّاً أو حشواً؛ بل ستتضح أهميته في العرض لتالي لكتاب عفراء في نصوصها النثرية.
لوحة غلاف كتابها خلفية سوداء تغطي مساحته الكلية، ماعدا القمر الساطع بنوره مع غيوم خريفية مبعثرة على مساحة القمر. وفي أسفل حافة القمر عتمة تقتحم استدارته بما يشبه مقدمة سفينة وفوقها، عند الغروب، رجل وامرأة تتشابك أكفُّهما وهما يرنوان إلى نور القمر. وتحتهما عنوان بحروف بيضاء عريضة: نور وقمر.
هل هذه اللوحة توحي بعاشقين مع اسمين مستعارين: نور وقمر؟ أو ربما هي مجرد لوحة غلاف رسمها مصمم دار النشر؟ والمصمم الفني الذكي يقرأ النص، أو أبرز نص في الكتاب، ثم يصمم الغلاف.
شخصيّاً أميل إلى التحليل الرمزي الموحي والأشمل والأعمق. فللناقد (بصيرة باطنية) قد تختلف أو تتناقض مع (البصر الحسي) للمبدع، أولمصمم الغلاف!
والنص النثري الذي يحمل اسم المجموعة عنوانه: نور وقمر. أقتبس منه ما يلي:
“في مينائي المعلوم
سفينٌة رستْ
آتية من مجهول
تَنشُد سرابَ الخريفِ
فصلَ مجون
رمَتْ مرساتَها
ليلة اكتمال القمر
ونوره الساطع
بلا وجلٍ
أَخفى كل النجوم”.
عند الصياغة اللغوية والفنية لأي نص هناك اختزال أو حتٌّ وتعريةٌ؛ كما تفعل ذرات الرمال عبر العصور بالجبال الشاهقات، فتحتُّ وتُعرِّي هيكل التضاريس؛ فتتشكّل القمم والسفوح والسهول بمنعرجات وامتدادات …فتأتي لوحة السلاسل الجبلة في الطبيعة بديعة التكوين. والشاعر أو المبدع لأي نص تعبيري يحتُّ، ويُعرّي اللغة ومعانيها وموسيقاها…حتى تتشكل معالم النص كاملة من تقديم وتأخير، وحتٍّ وتعرية لزوائد لغوية، قد تكون من المترادفات فترغم الشاعر على إقحام كلمة محددة بقافية وروي مناسبين لقافيةٍ يختارها لنصه، حتى لو كانت قلقة في موضعها؛ ففي قصيدة الجواهري عن دمشق (يا جبهة المجد) نقرأ في البيت الأول:
(شممت تُربَك لا زلفى ولا ملَقا
وسرت قصدك لا خِبّا ولا مذقا
وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي
حتى اتّهمت عليك العين والحدقا)
فما العين؟ وما الحدق في اللغة الشعرية لا في تشريح العين؟
لو كانت قافيته بروي الباء في كل النص لقال:
حتى اتهمت عليك العين والهُدُبا !
والأديب، شاعراً كان أو ناثراُ فنيّاً، يحتُّ ويعرّي لغة نصه فيحذف كلمة من هنا وكلمة أو كلمتين من هناك، رغم التمازج الروحي بين النص ومبدعه يجعل حذف كلمة واحدة من نصه كانتزاع طفل من بين أحضان أمه.
ولو كنت شخصيّاً كاتب النص النثري السابق لعفراء لقلت:
في مينائي رست سفينة
آتية من مجهول
تنشُد سراب الخريف
رمت مرساتَها
ليلة اكتمال القمر
ونوره الساطع
أخفى كل النجوم.
ويغلب على بعض النصوص النثرية في كتاب عفراء ما يشبه أسلوب السجع كما في مقامات بديع الزمان الهمذاني، ومقامات الحريري. وتواتر هذه السجعات يتلاحق أو تتابع ، يفسد المتعة الجمالية، والدهشة الفنية…للقارئ.
نقرأ مثلاً في نص دعوة:
لماذا تحاصرونه؟ / من أبسط حقوقه تحرمونه/ بانتقاداتكم تبعدونه/كاذباً تجعلونه”
النثيرة فن تعبيري يتحرر من قيود التكرار التراتبي في متن النص أو نهايته، فهو حر منفلت من هذه القيود. وإلا صار قصيدة تفعيلة؛ أو قصيدة نثر حرة، أو الشعر الحر؛ شعر الحداثة.
ولو استغنت عفراء عن هذه الظاهرة لقدّمت نصوصاً نثرية غنية في تآلف عناصرها الكلية. بل لو أخّرت القليل من هذه الحروف والكلمات المتواترة، نوعاً ما، لجاء النص أجمل وأبهى؛ كما في نص نغمات المطر:
عند هطول المطر/ تأخذني الرغبة/ لأعانق طيفك راقصة/أسارع خطواتي
أخفُّفها/ أدور/ أنحني/ على نفمات المطر/ تائهة في عالم الوجد.
نص نثري فني جميل في لغته الشاعرية الموحية وصوره الفنية.
ومن النصوص النثرية الجميلة أيضاً، نص: أثمن ذكرياتي، أعرضها بعد حتٍّ وتعريةٍ بإزميل الفن يجعل النص مترابطاً في وحدة عضوية متينة:
نفسي تنازعني إليك/ تناجيك/ دثّرني بأحضانك/ بشرايينك ادفنّي/ لأنبض بك فتكون وطني/ أنقش حلمي في بيادرك قُبُلاً / ألثمها بتحنان/ علَّ أنفاسي تلفحك/ ويلامسك حرُّ أنفاسي.
صور فنية بديعة موحية، ومشاعر تتغلغل بنبضها الدافئ إلى حشاشة القلب.
ونقرأ في نص آهات على ورق:
يجتاحني شوقي إليك / كلما سطع قمر في عتمة الليل/ كلما عبس غيم/ ضجَّ رعدٌ وبرق/ تتوق روحي للقياك/ كلما ضحك مطر/ ووجه الأرض قطراته رشق.
ويعجبني هنا التنسيق بين ألفاظ النص بألوان بلاغية متنوعة، مثل عبس وضحك، وسطع وعتمة، وقمر وليل، وغيم ورعد وبرق ومطر وقطرات.
يذكرني السطر الأخير بيت ابن زيدون:
(إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والأفق طلقٌ ووجه الأرض
قد راقا).
أخيراً أقتبس من نهاية نصها النثري الجميل: جثث الذكريات:
” أنظرُ في عينيك/ أنتفض حيةًّ / بين الأموات”.
للعيون