بقلم الأستاذة فاطمة عدلي : “نورالدين ضرار” شاعر الأعالي من طينة خاصة..
بورتريه: فاطمة عدلي/
1)
المبدع المتعدد أو “جمع بصيغة المفرد ” كما يسميه البعض..
ذاك القادم إلينا من ملكوت الحرف، إذا لم نستطع الذهاب إليه، يأتينا محلقا على جناح القصيدة..
لا يرتاد مجالا ويبقى حبيسه، بل تتشعب روافده وتتنوع عطاءاته المحكومة بالتجريب والخلق.
قد يأتيك ساردا في شعره، تتأجج الألفاظ منه إليك وتشعل فيك فتيل الحكاية، فينقل إليناأو ينقلنا إلى شساعة الهم المشترك في زمن الجراح الغائرة ،ويلقي بنا في جمر المرحلة:
هنا سيدي عثمان..
هنا ألفُ خرافة تُحكى،
في سراديب الأرض
يغورُمن يسميها..
هنا ألفٌ حكاية تٌروى،
في غيابات الليل
يضيع من يحكيها..
وحده حاوي الرواة
في سوق الحي
يبدأ من الختم
وعند مُنتهاها
يغيب في سديم الظلام..
2)
من خلخلة الروح إلى الغوص في المعنى..
يتبعثر فهمي في أحباره السامقة، فأعود من حيث أتيت لأفكك أزرار القصيدة، وأتوغل في أدغالها للكشف عن مكائدها وقراءتها من جديد..
لمقاربة شعره يتعين عليك الإنصات إليه بالقلب قبل الأذن حتى لا تضيع منك متعة النص..
في “ليل الاغتيال” تقول نبوءته:
حين تموت الكلمات
في كراسة الأنبياء
وتتهاوى الأشجار كالرماد
في “ليل الاغتيال”،
ماذا يبقى من خراب العالم
غير مسودة
لشاعر نسي اسمه
قبل أن ينام؟!
3)
المتذمر/ المتمرد..
حتى وهو يتذمر، فإنه ينتصر للحياة بالتمرد على اليأس والألم..
يتذمر الشاعر من واقع مزر، ويقدم احتجاجه بطريقة المغلوب على أمره، لكنه في الواقع يتلاعب باللغة على طريقة الأدب الساخر ،ليعطي معانيه صفة معكوسة، فتذمره واستسلامه مبطن بنوع من التمرد الخفي الذي يحث على التغيير، يقول خارج النص:
أيها العابرون
لنزق الوقت..
أنا الأعمى
وأنتم المبصرون
فانظروا
ما عساكم ترون؟…
لكن هذا التذمر لا يلغي تمرده في تسكعاته، الذي تحدى فيه كل أسباب الوجع حين قال في رؤياه:
موجع
مرعب
مفزع
فظيع
فاجع
ومروع
صاعق
هذا التشظي…
وتبقى رغم الرغم
وحدك سيد الأشياء..
أنت وحدك سيد الأشياء والأسماء..
4)
الحالم أبدا..
لا يدع الحلم ينفلت من بين يديه إلا ليمسك به من جديد، فيظل يراوده ويرفع من سقفه عاليا، يقول في إحدى صبواته، إذ يسخر من أحلام الآخرين:
أذكر أسرار البارحة
وأضجر بأحلام الآخرين
أسهر كل الليالي المتبقية
دفعة واحدة
أمدد حتى آخر فجر شواردها
أسهرها سهوا
وأسخر من أرق المتعبين
في رابعة النهار..
بل إنه يستنطق الآخر، إذ يجعله يبوح بحلمه أثناء توحد الحلم وانصهار الأنا في الآخر..
قالت له:
“حلمي
في رؤاي الحالمة
أن أغمض عيني بعينيك
وأبقى للأبد
تحت أجفانك نائمة “..
لا حدود لأحلامه ولا رادع لها،إذ يرفع سقف الحلم إلى مساومة ” شمس الله ” :
أو أقترف حماقات أخرى
كأن أراود حلما منفلتا من اهوائها،
أو أساوم شمس الله الغافية
بأفق مترع بالضوء
في سماء عينيها..
5)
علاقته بالكتابة..
هي علاقة جنون خلاق، يستعد لها كما لو كان مقبلا على معركة، كلما أراد مراودتها:
يحكم القفاز الأسود
على يديه..
يستنفر أصابع الجليد،
ويهم بالكتابة
ويقول:
“قليلة هي لفافات التبغ، الليلة،
كي أضرم على الأقل ،
بما يكفي
حرائق الأرض
في دمي..
قليلة هي سلافات الروح، الليلة،
كي أتعلم، على الأقل
بما يكفي
كيف أحب الحياة
وأكره العالم “
يا لها من مفارقة يجتمع فيها العبث بالجنون الخلاق، فيحب الشاعر الحياة في الوقت الذي يكره فيه العالم..
ويظل الحرف مشتعلا يقود تسكعاته القابضة على الجمر:
وحين يضرم الحرف
بأصابعي
جمر الصبوات،
يتحجر بعيني
وميض عينيك
يتحجر بيدي
رحيل يديك،
وعلى شفتي
يتحجر
كل الكلام..
6)
زئبقي التمثلات..
لا تستطيع الإمساك به، كلما ظننت أنك تمكنت من البعض منه، ينفلت منك الكل منه.
تمة بوح يتهادى بين طيات استيهاماته،
قالت له:
صبوتُ إليكَ
فلهج باسمكَ نبضي،
وهاج الموج
في لحظي.
وأنا أطارد استيهاماته أجدني متلبسة بمحاولة القبض عليه، وكلما ظننت أنني وجدت ضالتي نأى بحرفه المخاتل وانصاع لمكر القصيدة..
في “غرفته الموصدة” فوق السحاب ، تصير المسافة بين القبض عليه وانفلاته منك، كالمسافة بين شساعة المدى واستيهاماته العالقة بأهداب السماء..
غرفتي
فوق السحاب سابحة..
وسائدنا الغمام،
مشاجبنا
أهداب الشجر
وسريرنا
أرجوحة
على قوس قزح..
يداك
بكفي..
وللقلب أن يغني..
وما إن تستكين إلى هذا الغناء، وفي لحظة انفلات عاصفة، تضيق رحابة المدى وتقفل أبواب الجنان.
قال لها:
” إليك عني
شغلت عنك
دون الخلق
بنفسي
وبعد اليوم
لن تدخلي معي
جناني الموعودة
7)
الفوضوي الذي يغرد خارج السرب ،ثم يلملم فوضاه..
كما لو كان مرتبا يبدو لكنه يورطنا معه في خدع المعنى، فقط يرتب أفكاره ليهاجمنا بفوضاه.
يوهمنا بشيء في الوقت الذي يهيم في عوالم أخرى..
ويحدث أحيانا
وأنا استحضر وجوه الأتراب
صبيا
عفرت ملامحه النبوءات
نبيا
مسكونا في السر
بدهشة الأشياء
أو أتشاغل عنك
في غفلة منكٍ
بالمرئي من فجائعي القادمة،
والمروي من قصائدي الآجلة..
مشاكس، صاخب الحرف،قلق الحبر إذا ذهب إلى الكتابة، حتى عندما تظن أنك وقفت على عتبة عباراته وأمسكت بالمعاني، ينفلت منك وينصب لك فخاخه الماكرة.
وعندما تستكين إليه يعلن عليك فوضاه.
في ” اعتراف ” له يقول:
لكي أنظم فوضاي
لا دخل للبحر في حكايتي
ولا للمزهريات الزاهية
في بهارج الرخام
بباقات ميتة.
يضع شروطا خاصة لتنظيم هذه الفوضى، في ” عرض خاص ” :
لكي أرتب فوضاي
لا حاجة بي،إطلاقا،
لصورة ممهورة،
في عرضها الخاص
بابتسامة عريضة،
ولا لربطة العنق الوحيدة
البليدة
تطالعني كل صباح،
من مشجبها الخلفي
مثل مشنقة..
وهو في ” تلبس” يقر:
لكي أنضد فوضاي
لا حاجة بي إطلاقا
للوحة رخيصة
أثبتها ببلاهة
على جدران الآخرين..
هذه الفوضى العارمة لا تنتظم بسهولة، بل يضع لها شروطه الخاصة ليتسنى له الانتقال من الفوضى إلى حالة اللافوضى،
دون وصاية أو توكيل من أحد..
فهو في ” بهو النسيان ” يقول:
لكي أعولم فوضاي
أنا الآخر
بلا إجماع،
أو توكيل من أحد،
وألغي وصاية الأرض
بلا دماء،
لا حاجة بي، إطلاقا،
لشجر الطلح
يشيخ مثلي، وحيدا
في بهو النسيان،
ولا للمعاجم المحتفية
في محافل الكلام
بلغة محنطة..
8)
المقيم في الحلم أبدا، من الشعر إلى الموسيقى..
ما إن تظن أنك نجوت من قلمه الساحر، الذي يوغل بك في رحاب الشغف، عبر سفر شعري مأهول برحابة المعنى،حتى يعترضك انسكابه في عالم الموسيقى..
عندما سألته كيف اقترف هذه الغواية، أجاب بما يثير الدهشة إذ يقول:
” أكثر الأحلام التباسا في حياتي أني صبوت أول العهد، إلى أن أكون مجودا للقرآن على طريقة عبد الباسط، إمام المجودين، هذا قبل أن يراودني الحلم في منعطف مفاجيء، بأن أكون مطربا يستهويني الغناء، أشجى ما يكون الغناء، على مقامات عبد الحليم.
إذن هكذا بدأت حياتي شاعرا شابا قبل العشرين، وهكذا صرت موسيقيا حالما بعد الستين”
متورط بالموسيقى حد الوله..
وإن سألته كيف يجد هذه العلاقة بين الشعر والموسيقى يجيب بقوله:
” لعلي طالما كنت منذ أمسي البعيد أجد في الشعر بعض الموسيقى، وكأني صرت منذ عهدي القريب أجد في الموسيقى الشعر كله، أكثر من ذلك، ربما منذ انغماري في مرحلة مبكرة، من قصيدة لقصيدة، كان قد ترسخ الشعر في وجودي، لغة انتماء لفسحة معينة، من هذه الأرض، لكنني بدون شك، في رحلتي المتأخرة من أغنية لأغنية، كانت الموسيقى قد ترسخت في وجداني، لغة انتماء لرحابة كل هذا الكون أجمع”
إنه الشاعر الذي أطربنا بشعره، ولم يبخل علينا بالاستمتاع بموسيقاه وهو يشدو في:
تلك الليلة
كان يكفي
أفق في المدى
ليشع نورا في قلبي وعيني
كان يكفي نجم في السما
ليلعن وجه الظلام وأغني ..
وفي ” حالة ” يصدح صوته ” من ثقب في الجدار “
يسائل النهار
لحظة انتظار
وقد كانت شمس الدنيا
نورا من نور عينه
من لج كالإعصار
يساوم البحار
رعشة انبهار..