التكثيف الرمزي والدلالي في قصيدة تكبيرة الماء للشاعرة التونسية سمية اليعقوبي

من إنجاز ذ: سعيد محتال
المغرب/

ما يميز الكتابة الشعرية أنها قادرة على خلق نظام لغوي خاص بها دون المس بالنظام العام للقواعد اللغوية، مستندة في بناء تراكيبها على قواعد بلاغية خاصة من مجاز واستعارة وكناية… للحصول على صور ودلالات تخترق الفهم السطحي للمعاني، متجاوزة بذلك التواصل العادي بين البات والمتلقي.
وقد قسَّم الجرجاني مقاصد المتكلم إلى مقاصد ظاهرة سماها المعنى، ومقاصد خفية سماها معنى المعنى.
وحسب الجرجاني المعنى هو “المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تَصلُ إليه بغير واسطة”، ومعنى المعنى: ” أن تَعقِل من اللفظ معنى، ثم يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر”. دلائل الإعجاز في علم المعاني الجرجاني ، تحقيق: محمود شاكر أبو فهر، مطبعة المدني بالقاهرة – دار المدني بجدة، الطبعة الثانية1992م، ص: 263.
ولفهم المقصود من الكلام لا بد من إعادة بناء النص من خلال تفكيك رموز النص الابداعي من أجل الكشف عن خباياه، وإظهار معانيه الخفية، والوقوف على جمالياته.
ولن يتحقق ذلك الا من خلال الوقوف على الترابط الحقيقي بين مكونات النص ابتداء من الصوت وصولا إلى النص بالكامل، ولكن أهم وأبرز ترابط منطقي يمكن أن يسهل علينا مأمورية إدراك مكنونات النص هو الوقوف على الجملة باعتبارها المكون الأساسي الذي يساعدنا للإحاطة أكثر بالدلالات المعنوية التي تربط بين الرموز والكلمات المستعملة في النص، وتعد الجملة المفتاح الأساسي لقراءة مضامين النص بكل يسر دون الخوض في تعقيدات التأويلات التي قد تؤدي بنا الى نتائج خاطئة وإن كان لابد من الاستئناس بين الفينة والاخرى بباقي الترابطات العامة للنص كالحرف والكلمة..
ولقد صرح عبد القاهر الجرجاني قائلا: “ليس الغرض من توالي الكَلِم أنْ توالَتْ ألفاظُها في النطق، بل أنْ تَناسَقتْ دلالتها، وتَلاقَتْ معانيها على الوجه الذي اقتَضاه العقل…” . “دلائل الإعجاز” ص 25.
فقوة ترابط الأفكار وترابط دلالاتها تستند على ترابط دلالات الكلمات فيما بينها.
العالم اللغوي السويسري دي سوسير يرى في طبيعة هذه العلاقة: “إنّه لا كيان للغة إلا في ذهن الأفراد، وعلى ذلك فلا وجودَ للأفكار بدون كلمات، ولا حياةَ للكلمات بدون أفكار”.
: “نظرية النظم وقيمتها في الدراسات اللغوية”، وليد محمد مراد، ط1 دار الفكر، دمشق 1983 م،ص: 154

فالكلمات كما الرموز لوحدها تحمل دلالات مستقلة ومتشعبة ومن دون ترابط فيما بينها لا يمكن الوصول الى ما يفكر فيه الشاعر، ولا ما يرغب في قوله؛
فالكلمة لا معنى لها ولا قيمة لها إلا إذا ارتبطت مع جاراتها في علاقات، يقول الجرجاني :” … فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة” . دلائل الاعجاز ، فصل في تحقيق القول على «البلاغة» و «الفصاحة»، و «البيان» و «البراعة»،ص: 38.
وعلى الشاعر أن يكون دقيقاً في اختيار الفاظه، وان تكون تلك الالفاظ دالة على المقصود من غير عناء، فإن أحسن الكلام كما قيل:” ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه في ظاهر لفظه.”

– تكبيرة الماء
قصيدة للشاعرة المعاصرة التونسية سمية اليعقوبي، والتي عرفت نفسها في حوار لها: ” أنا خليط من طين بلون الأمس الأسمر وبرائحة الخلق الأول بكل ما يحمل من بساطة وبدائية وقلق يغمرني ماء الحياة ساعات لأشكل تماثيل وصور قريبة من بعض ملامحي حين ألقي الشعر ، أتنفس كلما سمحت الفرصة بذلك وكلما هدأت نيران تلك الحركة الملحّة داخلي واقتنعت بأن نبش أسرار الغد تنهك فأس الطموح …”
فالشاعرة من طينة الشعراء المتشبعين بثقافة الأمس المتأثرين بمآسي الحاضر وهمومه، لا تعرف اليأس ولا تستسلم له،
في البدء كان الصمت هو ملاذ مشاعرها، رغم إحساسها الكبير بقدرتها على صنع ما أنجزه غيرها من الشعراء ، فهي المولعة منذ زمن بعيد بأشعار كبار الشعراء كالمتنبي وغيره، تقول الشاعرة : ” علمت أنني قبل هذا البيت عمياء ( أنا الذي نظر الأعمى إلى شعره …) وصمّاء ووجب أن ترى عين قلبي جمال ما يقوله هذا الساحر وتسمع أذن عقلي ما يدسّ بين السطور وبدأت الرحلة مع المتنبي إلى أن انتهت حين نطقت بأول بيت لي بعد صمم دام أعواما ووجدت الإحاطة الكافية لاحتواء جنوني الذي بدا ككتلة ثلج تكبر باستمرار .”
فكان البدء ديوانها الشعري البكر ” تكبيرة الماء “، والذي يحمل نفس عنوان القصيدة التي اخترنا الغوص في بعض أسرار تفاصيلها المدهشة، ورغم أنني لم أطلع على ديوان الشاعرة ولا على بقية أشعارها، فقد أجزم أن هذه القصيدة تعد بمثابة فاتحة الديوان بالكامل، بل أكثر من ذلك قد تكون نقطة الارتكاز التي تضم العديد من الأسرار التي ستنساب كالماء بين ثنايا السطور ومضامين النصوص التي جادت بها قريحة الشاعرة بالديوان ككل .
العنوان لا يخلو من مغامرة ، ويصعب التنبؤ بما ترمز إليه هذه الجملة الاسمية التابثة، والتي حذف أحد ركنيها وهو المبتدأ، استغني عنه لوجود ما يدل عليه أو يشير إليه، والمركبة من كلمتين لهما دلالات قوية في الثقافة الإسلامية “الماء” و” تكبيرة”، فالماء في الأصل هو مصدر الحياة واستمرارها، فهو أصل الخلق ومبدؤه، ومصير كل شيء مرتبط به ، يقول تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ). (هود، الآية 7). وأصل خلق كل الذواب، قال تعالى: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير) ، ( النور، الآية 45)، بل هو الاعلان عن ميلاد كل إنسان جديد ، يقول سبحانه وتعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ). ( الفرقان، الآية 54).
كما أن نعمه كثيرة لا تعد ولا تحصى، وليس الآن مجال ذكرها، بل ما نود الإشارة إليه هو مدى رمزية الماء لدى الشعراء مدى العصور،
فالماء في الثقافة الإسلامية يرمز غالبا إلى العلم وإلى الرحمة، وإلى الصفاء والنقاء..
أما كلمة ” تكبيرة ” فمن الدلالات الحاضرة بقوة في ذهن كل مسلم ومسلمة، الكلمة التي لا تفارق ذهنك ومسامعك ليلا ونهارا، لارتباطها بشعائره الدينية: ” تكبيرة الإحرام” ” تكبيرة الصلاة” ” تكبيرة العيد” ..
فالتكبير في الإسلام لفظ يشير إلى عبارة ” اللَّهُ أَكبَر” للدلالة على أن الله أعظم وأكبر من أي شيء في الكون.
– تكبيرة: اسم مرَّة من كبَّرَ.
كبَّر المُصلّي قال: الله أكبر، تعظيمًا لله،
كَبَّرَ الْمَسْأَلَةَ : جَعَلَهَا كَبِيرَةً، ضَخَّمَهَا
كَبَّرَ الشَّيْءَ : رَآهُ كَبِيراً
كبَّر رأس ماله: نمّاه،
كبَّرته الهمومُ: شيَّبته،
كبّره هِندامُه: أضفى عليه مظهرًا يتعدّى الواقع. ( معجم المعاني)
وبإضافة الشاعرة كلمة تكبيرة على كلمة الماء، تكون بذلك تجاوزت المعنى الدلالي السطحي والظاهري لهما لتخلق بذلك تركيبا جديدا ، وانزياحا قويا يترك أثر الحيرة والدهشة لدى المتلقي لأول وهلة، فيحار القارئ العادي في فهم المقصود مباشرة ، كلمتان تحيلان إلى عدة معان ودلالات يصعب التنبؤ بالمرجح منها دون الغوص في دلالات النص بالكامل.
أهو قلق ماء الحياة الذي يغمرها حين تسعى لتشكيل بناء ملامح ولادة كل نص جديد.. هل هو الشعر الذي يسكن وجدانها حين تشكلت أول صرخة بيت شعري لا يكاد يفارق مخيلتها..؟؟
وبما أن العنوان غالبا ما يلجأ اليه الشاعر إلا بعد انتهائه من كتابة القصيدة، فلن نخوض غمار التأويلات السطحية حتى تأتي الاجابات مباشرة بعد السباحة على ضفاف بحر القصيدة التي تركت في أذهاننا أثرا طيبا.
يشكل العنوان في النقد المعاصر عتبة لا ينبغي تجاهلها أو المرور عليها بسرعة، فالعنوان كيان حيوي يوحي بالكثير من الأبعاد الدلالية التي قد تفتح للمتلقي آفاقا عدة تسهل عليه الوقوف على ما يخفيه النص من دلالات ومعان غير مصرح بها،
ولكن بما أننا أمام عدة علاقات قائمة بين كيانات مترابطة :
1 العنوان
2 القصيدة
3 عنوان الديوان
كان لا بد من إدراك مدى الترابط بين هذه المكونات التي نسجتها أنامل الشاعرة، هل الجانب الوجداني الذي يظل حاضرا بين كافة النصوص هو الذي أوحى إليها بهذا العنوان الفريد والمثير، وكأن عاطفتها تتدفق كمجريات الماء الذي يكاد لا يتوقف، ولا أي حاجز يمكن ان يمنع تدفقه..
ولتسهيل الأمر على القارئ، وجلب انتباهه اختارت كرمز أساسي للنص اسم ” آدم ” ، ال آدم الإنسان المتجدد عبر الأزمنة الممتدة عبر التاريخ الذي لا تتوقف حركيته، ولا تستقر أوضاعه،
آدم المعروف لدى جميع الاديان ب” أب البشر” الذي طالت يده شرك شجرة التفاح رمز للخطيئة والرغبة في التكفير عنها:

مِنْ “كُنْ” إلى الطِينِ… حتى كبَّر الماءُ
منْ أوّل النّطقِ… حتّى
غرغرتْ ياءُ

والـ آدَمُ المذْنبُ المحتجُ تأكُلُه
تُفاحةٌ ..طَعمُها الإنسيُ
حوّاءُ

مقطع رغم صغره اختزل أهم المراحل التي مرّ بها آدم عليه السلام، والتي ستمر منها البشرية من بعده جمعاء :
– مرحلة ما قبل الخلق: من ” كن” إلى ” الطين ” ؛
قال تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) السجدة الآية : 7
وقال سبحانه وتعالى: ( فَلۡیَنظُرِ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِن مَّاۤءࣲ دَافِقࣲ، یَخۡرُجُ مِنۢ بَیۡنِ ٱلصُّلۡبِ وَٱلتَّرَاۤىِٕبِ ) سورة الطارق. الايات : 5و6و7.
الغاية : ” كبّر الماء “
أول إحالة لها ارتباط مباشر بعنوان النص.
والتكبير غالبا ما يكون في بداية الأفعال ، فهو الدافع، وهو المحرك، وذاك هو المبتغى.
– مرحلة الخلق : من ” الطين” إلى ” النطق” أي خلق الإنسان
امتداد ل ” كبر الماء” ولكن هناك غياب لذكر اسم آدم ابتداء لأن التركيب دال عليه، بغيابه ستحدث مرحلة نهايته
– مرحلة نهاية الخلق: ” غرغرت ياء”.
غَرغَرة: (اسم)
مصدر غَرْغَرَ
الغَرْغَرَة : ترديد الدواء أَو الماء في الحلق
غرغرةُ الموت: الحَشْرجة
أضافت إليها الشاعرة “ياء” وهو آخر حروف الهجاء للإشارة إلى نهاية حياة الإنسان:
والـ آدَمُ المذْنبُ المحتجُ تأكُلُه
تُفاحةٌ ..طَعمُها الإنسيُ
حوّاءُ

قبل الخوض في الدلالات الجديدة لابد من التطرق إلى نقطة مهمة تتعلق بذنب آدم وحواء عليهما السلام، وهو أن ما وقعا فيه من المعصية كان سببه الشيطان، حيث وسوس لهما وأغواهما بالأكل من الشجرة، قال الله تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) الأعراف: الآية 20.
حتى إن الاحتجاج والاعتراض صادر عن الشيطان بسوء فهمه وإدراكه الغاية من خلق الإنسان، ودعوة الملائكة للسجود إليه،
وتعد هذه أسوأ صفة ورثها الإنسان ( والـ آدَمُ المذْنبُ المحتجُ) ( قابيل المعارض والمحتج على قرار الزواج كما هو وارد لدى غالبية أهل الكتاب …) الإصرار على ارتكاب الخطيئة والغرق في الذنوب( تأكُلُه تُفاحةٌ ) ، فالشاعرة هنا استطاعت أن تغير المعادلة من خلال انزياح بديع جعلت من التفاحة هي التي تَأكل الإنسان وليس العكس كما هو راسخ في ذهن المتلقي، وكأنها تريد اخبارنا بأن الإنسان أصبح ضحية أطماعه الغريزية:
( طَعمُها الإنسيُ
حوّاءُ ..).
آدم —-أكل الثفاحة —- المحرك الأساسي غريزي : ( الرغبة في الخلود)
التفاحة تأكل —-ال آدم المذنب( استمرار في الذنب)— المحرك هنا ايضا غريزي: ( الشهوة : طَعمُها الإنسيُ حوّاءُ ..).
فالنفس البشرية تعد أكبر عدو للإنسان إذا استسلم إلى شهواته، واستمر في السعي وراء تحقيق نزواته.. والتي لن يجني منها سوى الندم والابتعاد عن الجانب المشرق الذي أتى به آدم عليه السلام من بعد خروجه من الجنة وهو للاستخلاف وعدم الإصرار على ارتكاب الذنوب والمعاصي، فكان آدم وحواء عليهما السلام أول من علما الإنسان الرجوع إلى الصواب والاحتماء بالتوبة والمغفرة، حين اعترفا بخطئهما، قال تعالى: ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِين) الأعراف: الآية 23. وهنا نرى كيف استغفر آدم ربه؟ متحدثا إليه بانكسار وإذلال ، لذلك تاب الله عليه؛
من أولِ اليُتْمِ لا أهلٌ ليَبكِيهُم
جد البدايات لم تكفله آباء
اليتم في اللغة هو الانفراد، ويطلق لفظ اليتيم على من فقد أباه وهو صغير، ولم يبلغ الحُلم سواء كان ذكراً أو أنثى. ويطلق مجازاً على الإنسان الراشد الذي مر باليتم في صغره.
وأما اليتيم من البهائم فيطلق على من فقد أمه.
واليتم صفة تحيل على الضعف والفقر، وعلى من لا يحسن التصرف،
وهذا التفسير يتماشى مع المشهد السابق من كون المرء غالبا ما يقع في زلات بسبب غياب الموجه والمرشد:
” جد البدايات لم تكفله آباء”
فالمخطئ كاليتيم دائما ما يشعر بالتوثر، ويعتقد أنه كان ضحية غياب من يرشده الى جادة والصواب، ويهديه إلى الطريق المستقيم، فهو كالمقطوع الأصل:

بلا بذُورٍ ..وجرحُ الأرضِ أنْبتَه
والزّرعُ قابيلُ،
والـمقطوفُ أخطاءُ

معلوم ان البذور أصل كل ثمر في غيابها لا أمل في الحصول على الثمار،
في غياب البذور —> المقطوف أخطاء —> السبب قابيل.
قابيل —> ال آدم المذنب —>
استمرارية في الخطأ —> جرح الأرض أنبته؛
كلما ذكر اسم قابيل إلا وتبادر الى الأذهان أول جريمة قتل وقعت كما يقال في تاريخ البشرية، فصارت ترمز إلى كل شخصية سلبية أو عدوانية تجاه الغير،
وقد وظفت الشاعرة رمز قابيل للدلالة على حقارة الانسان، وتنكره لأصوله وأقربائه وغرقه في شهواته وابتعاده عن نبعه الأصيل : ” بلا بذور ” ” جرح الأرض” ” الزرع قابيل” ” المقطوف أخطاء”
سلسلة من التراكيب اللغوية التي تحمل دلالات الجراح والقسوة والألم ؛

تسَلّمَ الجَسدَ الطّينيَ ..مَركِـبَهُ
للبحرِ يُدْعَى وجفنُ الشطِّ بكّاءُ

تغييب الفاعل في الشطرين لينوب عنه كل من المفعول به ونائب الفاعل للدلالة على شدة قساوة هذا الجسد الطيني الذي استسلم إلى المجهول ( البحر) والنتيجة شدة الحزن والبكاء الذي يكاد لا يفارق الجفن، امتداد للجرح :

يمشِي هو القَلَقُ الممتدُ اسئلةً
أوقاتُه الرمل والخطواتِ صحراءُ

جرح توغل على امتداد هذا الكون الواسع:
جرح الأرض —> قطوف أخطاء
البحر —> شط بكاء
المشي —> صحراء
قلق ممتد في كل الاتجاهات زمنه بطيء (أوقاتُه الرمل) ومكانه عسير ( الخطواتِ صحراءُ).
اعتمدت الشاعرة كثيرا في نصها على الجمل القصيرة والمفاجئة، أغلبها جمل اسمية للدلالة على استمرارية الحدث عبر الأزمنة الثلاثة :
– زمن الماضي :
لحظة امتزاج الماء بالطين ، الرغبة والحنين
– زمن الحاضر:
زمن المآسي والأزمات
رمز متلبس بطبيعة البشر الانسان الحامل لصفات ترمز إلى الضياع والتمزق
– زمن المستقبل:
لحد الساعة مجهول ، والخطيئة ممتدة …؛
استمرارية الإصرار على الذنب والمعصية، ولن يوقفها إلا التفكير في أهمية ماء الحياة وما له من دور في إعادة الأمل إليها ..

يا آدم َ الطينِ هل للماءٍ ألسنةٌ ؟
عينُ ارتوائِك يا مَحْكِيُ خَرسَاءُ

ضَرَّاؤُه افتقدَتْ أُمًّا تلُوذُ بهِ
في حِجْرِ عَمَّ لكي تَرقِيهِ سرّاءُ

أصبح آدم تلك الشاعرة التي تعبر من خلاله عن صوتها، وعن ذاك القناع الذي يبعدها عن التقريرية والغوص في السرد، يكفي أن تناديه حتى تجد الماء الذي يأبى أن يدنس جسده حاضرا بقوة، الإجابة عمّا هو عالق بهذا الجسد الطيني الخرساء عينه، متمادية في الانزياحات التي كسّرت بها الشاعرة عن صمتها الدفين لعل قلبها يرتوي من عطش الجفاف الذي لحقها من آدم الطين ،
فالشاعرة بذلك تراهن بقوة على الرمز آدم المستوحى من الدين والتاريخ، والذي استحضرت من خلاله فقط الجانب المتعلق بالأرض والمتمسك بها (آدم الطين — ال آدم المذنب .. ال آدم المحتج) ، مما سبب له جفافا وغيابا للجانب المشرق فالعين خرساء أمام ألسنة الماء لعلها تطفئ ضمأ الأحوال والظروف التي لحقها ضرر، أملها في هذه الرموز التي لا يمكنها العيش من غير أمل في ما هو أصيل نبعه، وإلى ما هو أسمى ومقدس، وهذا ما دفعها للانتماء إلى الكتاب والسنة باعتبارهما مصدرين ملهمين ومرشدين لبني آدم لعله يكون في ذلك عبرة لهم وملاذا آمنا؛
لذا تم استحضار عدة تناصات معهما :
1- الحديث النبوي الشريف،
عن أبي يحْيى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ ، قال: قال رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. رواه مسلم.
2- القرآن الكريم:
مع سورة عمّ أو سورة النبأ كما هو مشهور، والتي كانت ردًّا من الله على الكافرين المُشكّكين بتساؤلاتهم في حقيقة البعث ويوم القيامة، إنها لفتة لمن يعي بما تعرض له كل مشكك ومشرك، ولعلهم يستشعرون مدى خطورة التلبس بالذنب الذي يصعب الاقلاع عنه .. وكأنها تلوذ إلى نبع أصيل ينير لنا الطريق بعد كل وحشة:

يا وحشةَ البدءِ والوحداتُ تركُلهُ
صوبَ السُّكونِ وصَوتُ الريح حكّاءُ

وَحشة: (اسم)
الجمع : وَحَشات و وَحْشات
الوَحْشَةُ : الأَرضُ القفرُ المستوحشة
الوَحْشَةُ من الناس: الانقطاعُ وبُعْدُ القلوب عن المودّات
الوَحْشَةُ: الخَلْوةُ
الوَحْشَةُ :الخوفُ من الخَلْوة
الوَحْشَةُ :الخوف
الوَحْشَةُ :الهَمُّ

وَحدة: (اسم)
الجمع : وَحَدات و وَحْدات
مصدر وحَدَ ووحِدَ؛
عُزلة وانفرادٌ بالنفس

حَكّاء: (اسم)
الحَكَّاءُ :من يَقُصُّ الحِكَايةَ في جَمْع من النَّاس

وحشة الشاعرة وإحساسها كأي إنسان بالوحدة الممتدة عبر طعنات الزمن المتكررة والمعلنة في فعل الركل الذي يجعلك تتعرض للسقوط مرارا ( الوحدات تركله) كل هذا دفع الشاعرة إلى مخاطبة غير العاقل ( يا وحشة البدء) التي تحمل بين طياتها تأويلات لها صلة بال آدم المذنب الذي غلبته بداية الفراغ وما كان يشعر به سواء لحظة تواجده بالجنة أو وقت نزوله إلى الأرض، النابعة من كون مخاطبة غير العاقل تفيد التمني الموحي باستحالة التحقيق
إنها لفتة من الشاعرة – لكل إنسان يعيش ذات الهم والألم والحصرة والندم اخترق سكونه، والذي بات بلا قيمة حين هبت عليه ريح يوقظ صوتها كل نائم، فأنزلت الشاعرة الوحشة منزلة العقلاء للدلالة على أهمية استنهاض الهمم والوقوف في وجه كل ريح مناهضة ومخربة لكل إصلاح أو تغيير.
إنه النداء الذي يوحي بثقل الكلمة وقوة فاعليتها؛
نداء غير العاقل غالبا ما يفيد التمني المشعر بالعجز والتقصير، يجعل الإنسان يظل يركض خلف الأشياء التي كان يتمناها طول العمر، غارقا في اللعب والتيه حتى يجد نفسه فريسة انتظاراته :

ألعابهُ والصِّبا المنشُود… أَسقطَهم
وافتَكَّهُ العمْرُ وافْتَكّـتْه
أشياءُ

ماكانَ يعرِفُها ..أشياء تكتُبه
أشياء يشطُبها….
حفظٌ واملاءُ

الشيءُ : اسم لأيّ موجود ثابت متحقّق يصحّ أن يُتصوَّر ويُخبر عنه سواء أكان حسِّيًّا أم معنويًّا

في هذا المقطع بالذات يبين مدى اعتماد الشاعرة تكرير نفس الأصوات والكمات والأفعال( وهذا الأمر حاضر بكثرة في العديد من المقاطع)؛
– كلمة ” أشياء ” تكررت أكثر من ثلاث مرات
– افتَكَّهُ العمْرُ –افْتَكّـتْه الأشياء
– مع تكرير الادغام زيادة في قوة مدلول الفعل ..
( افتكَّ الأسيرَ: أطلقه وحرَّره
افتكَّ الشَّيءَ فكَّه، فصل أجزاءه، فصله من غيره افتكّ العقدة/ الآلة
افتكَّ الرَّهنَ: خلَّصه من يد المرتهن)
الأفعال صارت مقيدة بالأشياء المحيطة بها والتي باتت هي الفاعل والانسان هو المفعول به، وكأن الشاعرة تود التخلص من قيود الأشياء والموجودات العالقة في ذهنها والتي هي سبب كل هذه الانكسارات التي مرّ بها آدام / الإنسان:
( ألعابهُ والصِّبا المنشُود… أَسقطَهم)
غياب الوعي بالاحاطة بالأشياء وإدراك أهميتها : ( ماكانَ يعرِفُها)
مجرد إملاءات ورغبات غير إرادية:( حفظٌ واملاءُ ).. انشغال بغير ما ينفع، عبرت الشاعرة عن كل ذلك بصور شعرية تشخيصية، مكّنتها من التعبير عما هو مجرد في قالب مادي محسوس : ( افتَكَّهُ العمْرُ – افْتَكّـتْه الأشياء- أشياء تكتُبه..)
حتى تكون الصورة قريبة من ذهن القارئ، فالشيء المحسوس بطبعه أقرب إلى الفهم من المعقول،
فأحيت المواد الحسية الجامدة، وأكسبتها إنسانية الإنسان ، فصارت الأشياء تفتك وتكتب.. البدء منشغل:

آناءَ آدم َ كانَ البدءُ منشغلا
إلاَّهُ كُلاًّ وكلُّ الغيرِ أجزاءُ

آناء: (اسم)
جمع أَنْيٌّ، وإِنْيّ
جوف الليل – ساعات من الليل، عكسُها أطرافُ النَّهار
وقد ارتبطت كلمة آناء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بالتسبيح والذكر والعبادة :
قال تعالى: ( فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ). سورة طه: الآية 130.
وفي الحديث الشريف: ” لا حسدَ إلَّا في اثنتَيْن : رجلٌ آتاهُ اللهُ الكتابَ ، فهو يقومُ به آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ ، ورجلٌ آتاه اللهُ مالًا ، فهو يتصدَّقُ به آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ.” رواه البخاري ومسلم.
منذ البدء وال الآدم البشري يكتنفه الغموض والانشغال بما هو عاجز عن الوصول إليه، وهذا ناتج عن طبيعة كينونته المحدود، فالكمال لله المحيط بكل شيء لا تدركه الأبصار ، والإنسان مجبر على الخضوع إلى المطلق وطلب العون من الخالق القادر على كل شيء ، وهذا المعنى نجد الشاعرة وكأنها استحضرته من قول الشاعر الفلسطيني القاضي يوسف النبهاني:
نورُكَ الكُلُّ وَالوَرى أَجزاءُ
يا نَبِيّاً مِن جُندِهِ الأَنبِياءُ
رَحمَةَ الكَونِ كُنتَ أَنتَ وَلَولا
كَ لَدامَت في غَيبِها الأَشياءُ
وهذا ما نجده صريحا في قوله تعالى : ( وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۘ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ). [القصص: الآية 88
وكأن الشاعرة في هذا المقطع تسعى للارتواء بقصد أو بغير قصد بدم جديد من خلال اللجوء الى التجربة الصوفية، لعلها تلفت نظر القارئ إلى عدولها الوجداني ووانزياحها اللغوي والمعرفي بالابتعاد عن الغرق في الخطاب المباشر للتعبير عن الهموم والأحزان التي أصابت ودمّرت مختلف مجالات الحياة، مما يجعل القارئ يشعر بالملل والخطاب المبذل، فكان لابد من العود إلى المطلق، فاتخذت الشاعرة من شِعرها وسيلة للتنفيس عن هاته العواطف المتفجرة، اخترعت لباسها الفني الجديد من خلال الانحراف عن الظاهر من اللغة واللجوء إلى الاستعارة والتخييل، مستعينة بالتجربة الصوفية الرائدة في التكثيف الرمزي والدلالي اللذين تتأسس عليهما الرؤية الأدبية عند أهل التصوف ومن سلك دربهم، فمنهما تستمد الكتابة الشعرية قيمتها الفنية في غرابة المعنى: ” آناء آدم “. فقد رأينا سابقا كيف أن هذا الرمز وظفته لعدة أغراض وأهداف ( ال الآدم المذنب – المحتج / آدم الطين ..) وليست هذه هي المرة الأولى التي وظفت فيها هذا النوع من التخييل، بل لا يكاد يخلو سطر ولا جملة من هذا النوع البلاغي..:

عِشنا بآدمَ أعباءً مُفرقةً
ثُم اجتمعنَا به ،والذنبُ ميناء

كالحِبرِ يعبرُ والأقلامُ تشربُه
ألقَتهُ معنًى على الأوراقِ فيزياءُ

تَحمَّلَ السَّيرَ …طولَ الآهِ ..شَقْوتَه
والسِّجنُ في عتْمةِ الوحداتِ إعياء

يقول الله تعالى: ( لقد خلقنا الانسان في كَبَد ) سورة البلد ، الآية .. فسّرها ابن عباس أن الله خلق الانسان وهو يكابد أمر الدنيا، ومعناه: لقد خلقنا ابن آدم في شدّة وعناء ونصب..
فالإنسان منذ ولادته عليه أن يتحمل كبد ومشقة الحياة طول مراحل العمر الكبرى ” طفولة – شباب- شيخوخة “؛
ومن منا لم يمر بأعباء ثقيلة ، وما ينتج عن ذلك من همّ وغمّ وقلق وترقب وانتظار .. ( عِشنا بآدمَ أعباءً مُفرقةً)
وهناك من المفسرين من فسّر الكبَد بمعنى الاستواء والاستقامة، ومعنى هذا القول : لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك ) سورة الانفطار ، الآية 6.
فلا شك أن أعباء الحياة من متطلباتها وإلا ما كان هناك ابتلاء أو حساب ، فمن آدم عليه السلام ، مرورا بالأب الثاني للبشرية نوح عليه السلام ، حتى بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الهادي الى الطريق المستقيم والبشرية جمعاء ( ثُم اجتمعنَا به) مطالبة بالصبر على كل بلاء، وأن نكون عند حسن ظن الله بنا، فحمل الأمانة يقتضي الطاعة والانصياع لأوامر الله والصبر على الأذى، وتجاوز الأشواك : ( والذنبُ ميناء)
الميناء من فعل وَنِيَ يعني ضعُفَ، والميناء هو مكان لجوء السفن عند ضَعفها واحتياجها إلى التزود بالوقود والطعام ونحوهما.
الذنب: من معانيه، آخر الشيء شِبه الزائد عنه.
وقد شبهت الشاعرة الذنب بالميناء، اقتصرت على المشبه والمشبه به دون ذكر الأداة ووجه الشبه، لأن الكلام السابق يدل على مدى تشتت الأعباء وتفرقها لتعود إلى طبيعة الإنسان الغريزية الدفينة التي تجعله لا يقترب من الذنب إلا إذا وقع في ضعف واستسلم لغرائزه،
فراكب السفينة عليه اختيار الطريق القويم ، وعدم الوقوع في المعصية، كما أنه عليه تحمل تبعات اختيارته؛
أعباء الحياة عموما بملذاتها وشهواتها وهمومها وأفراحها ما هي الا:
” كالحِبرِ يعبرُ والأقلامُ تشربُه
ألقَتهُ معنًى على الأوراقِ فيزياءُ

تلاق كبير بين الحبر العابر الذي لا توقف تدفقه إلا أقلام عرفت كيف تعيد تشكيله من خلال المعاني التي تحاكي الأعباء المتفرقة والممتدة عبر الزمن..
فما الشاعر إلا لسان حال قومه يأخذ بيدهم ويرشدهم إلى بر الأمان، فمَن غيره يستطيع أن ينغمس بكل صدق وأمان في هذه الحياة، ويحس بريحها ورياحها، ويعبر عنها بمشاعره الصادقة وأحاسيسه النبيلة، وقد يضحي أحيانا بأعز ما يملك ، غير مكثرة بعتمة الظلام :

تَحمَّلَ السَّيرَ …طولَ الآهِ ..شَقْوتَه
والسِّجنُ في عتْمةِ الوحداتِ إعياء

رغم تراكم الأوجاع وعسر المحن فالإنسان قادر على تحمل السير رغم طوله، لكن الصعب فيه هو العياء والأرق الذي تسببه عتمة الوحدات والفراغ القاتل الصامت الذي يترتب عنه الانهيار والاستسلام للآهات الباطنية التي تدمر الفكر وتلحق الضرر بالنفس وتثقل كاهل الأعصاب،
في هذه اللحظة تحذرنا الشاعرة الإنسان من حرقة النار :

يا آدم َ النارِ كمْ خوفًا ستَحرِقُهُ
خُلودُكَ المُشْتَهَى، للإثمِ مَشَّاءُ

التركيب الندائي حاضر بقوة في هذا النص فصار يتضمن معان خفية غير وظيفته الأصلية ، فصار هناك ارتباط قوي نفسيا ووجدانيا بين المنادي / الشاعرة والمنتدى / ال آدم الإنسان، فخرج بذلك عن معناه المعروف، وأصبحت له أغراض أخرى كالتحسر والعتاب والتوجع والتحذير والتنبيه، فكان الغرض من تكثيف أسلوب النداء لإظهار الحالة النفسية والوجداني التي كانت عليها الشاعرة لحظة صياغتها القصيدة ، مشاعر كلها تحسر وتدمر مما صار عليه حال البشرية من أوجاع وحروب وانقسامات ، وراؤها جشع الإنسان وطمعه في تحقيق خلوده المشتهى والذي يكاد لا يفارق الإنسان طوال عمره، رغم ذلك فقد أضاف أسلوب النداء للنص شاعرية عاطفية قوية تقرب بين الشاعرة والمتلقي / المخاطب وكأنه هو المقصود بالكلام، تلفت انتباهه إلى ما يحيط به ، وأن الخلود المبتغى الذي ينشده كل إنسان، ويتمناه كل هالك ما هو إلا أوهام، لأن الأعمار يسيرة مهما طالت، والشهوات أطماع لا حد لها، وقد سبق أن وسوس الشيطان اللعين لآدام عليه السلام بهذا المشتهى المفقود حسب زعمه، قال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ )سورة طه الآية : 120.
والشاعرة هنا تحذرنا من الوقوع في هذا الفخ الذي نصبه الشيطان لبني الإنسان، فالبقاء والدوام لله وحده سبحانه وتعالى.
” آدم النار “
استدعاء الشاعرة لهذا الرمز ” النار ” مع نهاية القصيدة له ما يبرره، بل له أكثر من دلالة خصوصا أنها أضافته إلى الرمز المحوري ” آدم ” الذي شاركنا كل أحاسيسها ومشاعرها منذ انطلاقة النص، ولفهم هذه الدلالة التركيبية الجديدة لابد من وضعها في سياقها العام للنص، نظرا لتعدد استخدامات لفظة النار، هذا الكائن الغارق بين عدة متناقضات حسب تعبير باشلار بين الحياة والموت ، بين الدفء والخوف، بين الضياء والحرق ، فقد تعني أحيانا القدرة والسيطرة، كما تعني الهدم والسقوط.. ، فالنار بالتالي تجمع المتناقضات : نار و نور، خير وشر في نفس الوقت.
وكأن الشاعرة تود أن تعرج بنا بين كل هذه المحطات للجمع بين دلالات العذاب والتطهير من خلال ذكر شخص آدم التائب من الخطإ الذي ارتكبه،
نلاحظ هنا كيف تمكنت الشاعرة من استدراج القارئ إلى هذه النتيجة الحتمية، مستعينة بهذا الرمز الديني والتاريخي الذي ظل حاضرا طيلة النص:
آدم المذنب»»» آدم المحتج»»»
آدم الطين »»» آدم النار.
تسلسل منطقي موصل إلى عاقبة كل مُصر على الذنب والمعصية، اختزلت من خلاله الشاعرة عدة محطات عمرية وتاريخية، مقرونة معانيه بجمل قصيرة تدل على مدى قصر عمر الإنسان وأن مصيرنا جميعا إلى زوال:

هيءْ كفُوفَكَ للأَوجاعِ، لُمَّ بها
جَمْراتِ جُرحِكَ لَونُ النَّزفِ حِنّاءُ

للحناء مكانة خاصة عند المسلمين، فقد حث الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم على استعمالها لما لها من فوائد، وذكر ابن القيم أن: (الحناء محلل نافع من حرق النار، وإذا مضغ نفع من قروح الفم والسلاق العارض فيه ويبرئ من القلاع والضماد به ينفع من الأورام الحارة الملتهبة وإذا ألزقت به الأظافر معجوناً حسنها ونفعها، وهو ينبت الشعر ويقويه وينفع من النفاطات والبثور العارضة في الساقين وسائر البدن).
لكن عندما يصير الجرح عميقا، وغير قادر على التوقف بسبب شدة النزيف فإن دور الحناء سيصبح منعدما ، وستتخذ دماء الجرح لون الحناء شديد التعفن، لذا حذرت الشاعرة الإنسان المذنب من شدة هول الأوجاع التي ستتقاطر تباعا عليه دون أن يقدر على إسعاف نفسه التي تعودت على ارتكاب المعاصي، وقد اختارت مجموعة من الكلمات ذات صيغة الجموع ( كفوف – أوجاع – جراح ) للدلالة على الكثرة ، كثرة الجراح والاوجاع تتطلب عدة كفوف ، فالوجع اذا ألمّ بشخص تسرب غلى غيره خصوصا الأقربين منه، كمثل”.. الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد السّهر والحُمّى ” ، مستعملة فعلين أمرين ( هيّء و لُمّ ) بصيغة التنبيه والتحذير مما قد يصيبه يوم لا ينفع شيء.
الإصرار على ارتكاب الذنب وعدم المبالاة بعواقب ذلك مجرد غواية جديدة يلف بها عنق حريته، مهما عاش:

كمْ عِشتَ يابنَ مِهادِ الخَلقِ في حَذرِ
مُلِّكْتَ لُغْزًا ،وقَدَّ اللُّغزَ إغْواءُ

مِهاد: (اسم)، الجمع : أَمْهِدَة و مُهُد
من معانيه:
المِهَادُ : الفِراشُ
المِهَادُ: الأَرضُ المنخفضةُ المستوية
المِهَادُ :قاعُ البحر أَو النَّهر
فعله مَهد
مهَد لنفسِه خيْرًا: هيّأه
مَهَدَ لِنَفْسِهِ : جَعَلَ لَهَا مَكَاناً وَطِيئاً سَهْلاً بِما كَسَبَ
معجم المعاني.
ابن مهاد الخلق
قال تعالى : ( أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلْأَرْضَ مِهَٰدًا ) سورة النبأ، الآية: 6.
الكلام جاء على سبيل التشبيه، بمعنى أنه سبحانه جعل الأرض مكان استقرار الناس وانتفاعهم بخيراتها وجلبا لراحتهم ، كما يشير إلى أنه سبحانه وتعالى منّ على الإنسان بهذا الابداع الخلاق الذي يسر لهم هذه البسيطة ليبعد عنهم التكلف والتعب، وليذكرهم بفضله عليهم، كي يقبلوا على عبادته وشكر نعمه عليهم، وأن لايقابلوا النعمة بالكفر والعصيان.. فمهما عاش الإنسان فمصيره إلا زوال، فالنعم أيضا تزول بزواله، وأما ترغيب الشيطان دفع بني آدم إلى ارتكاب المعاصي والسعي وراء تحقيق الأماني الكاذبة، أو ما يطمح له العاصي من الرغبات العاجلة تجعله ينسى المهمة الموكولة إليه، فيقع في أحضان براثين الغواية :
فكما قال أدولف هتلر : ” مهما بلغ حذرك سيصفعك الزمان بغفلة
وقد أتت الشاعرة بكم الخبرية التي تدل على عدد غير محدد للتكثير، جاءت الأداة للإخبار عن معدود كثير في الزمن الماضي ” زمنا طويلا عشت”، والمخاطب هو الانسان نفسه “يا بن مهاد الخلق”، من باب المبالغة، وكأن الشاعرة تحذرنا من صفعة الزمن التي لا ترحم، فكم عاش الانسان في لهو وفي ترف، غير مكترث لما ينتظره، حالته الحذر والغفلة عما سيلاقيه.
وقَدَّ اللُّغزَ إغْواءُ
قَدَّ قَدَدْتُ ، يَقُدّ.
قَدَّ الثوْبَ :شقّهُ طولاً
قُدَّ قلبُه من حجر: كان شديدًا لا يتأثَّر
قَدَّ الْمُسَافِرُ الفَيَافِيَ: قَطَعَهَا
قَدَّ الكَلاَمَ : قَطَعَهُ.

قال تعالى مخبرا عن إبليس وتمرده : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) سورة الحجر، الاية : 39.
أصل الغي الفساد، وهذا هو السر الذي يجب التنبه إليه
يقول أبو هلال العسكري: ” .. وإذا قلنا فلان فاسد اقتضى ذلك أنه فاجر وإذا قلت إنه غاو اقتضى فساد المذهب والاعتقاد. ” الفروق اللغوية – أبو هلال العسكري – الصفحة 394.
ولعل ما أثار تساؤل الملائكة عن سبب خلق الإنسان، أصل الفساد انشغال وابتعاد عن الوظيفة التي خلق من أجلها بنو آدم ، وهو تعمير الأرض.
خاتمة تناسب النص، وتزيده جمالا وأهمية، كما تليق بالتحذير الممتد طيلة النص، والذي اتخذ عدة أشكال وأحوال، يغلب عليها طابع التكثيف بفضل تكرير عدة انساق لغوية ودلالية وصوتية ساهمت في تنمية النص إيقاعيا ودلاليا، استطاعت الشاعرة من خلال كل هذا ان تعطي صورة عن حقيقة الإنسان المتشبت بخطإه وخطيئته منذ بداية خلقه حتى مماته مهما توالت الاجيال
سيظل الانسان متشبعا بهوسه وكيده الذي لا يتوقف في السعي وراء شهواته ونزاواته التي لا حد لها، إذا لم يتنبه إلى أهمية الرسالة التي كلف بها، رسالة تود الشاعرة أن تحيي معالمها من خلال تكبيرة الماء سطرت أبياتها بأسلوب مليء بالإغواء الذي اتخذ عدة اشكال تعبيرية، والإغراء لكل متذوق للشعر واللغة، كما تريد من خلال هذا النص ان تبلغ صوتها المشحون بالهموم والأسى إلى كل إنسان مثقل بأوزار الغواية طابعها الفساد والإفساد ، غارق بين امواج محركها شهوة لا شط لها ولا أمل في الخلاص منها إلا باللجوء إلى تكبيرة الماء، تكبيرة فيها دعوة إلى الأمل، دعوة إلى الحياة الصافية الأبدية.
سعيد محتال
++++++++++++++++++++++++++++++++
تكبيرة الماء

مِنْ “كُنْ” إلى الطِينِ… حتى كبَّر الماءُ
منْ أوّل النّطقِ… حتّى
غرغرتْ ياءُ

والـ آدَمُ المذْنبُ المحتجُ تأكُلُه
تُفاحةٌ ..طَعمُها الإنسيُ
حوّاءُ

من أولِ اليُتْمِ لا أهلٌ ليَبكِيهُم
جد البدايات لم تكفله آباء

بلا بذُورٍ ..وجرحُ الأرضِ أنْبتَه
والزّرعُ قابيلُ،
والـمقطوفُ أخطاءُ

تسَلّمَ الجَسدَ الطّينيَ ..مَركِـبَهُ
للبحرِ يُدْعَى وجفنُ الشطِّ بكّاءُ

يمشِي هو القَلَقُ الممتدُ اسئلةً
أوقاتُه الرمل والخطواتِ صحراءُ

يا آدم َ الطينِ هل للماءٍ ألسنةٌ ؟
عينُ ارتوائِك يا مَحْكِيُ خَرسَاءُ

ضَرَّاؤُه افتقدَتْ أُمًّا تلُوذُ بهِ
في حِجْرِ عَمَّ لكي تَرقِيهِ سرّاءُ

يا وحشةَ البدءِ والوحداتُ تركُلهُ
صوبَ السُّكونِ وصَوتُ الريح حكّاءُ

ألعابهُ والصِّبا المنشُودِ… أَسقطَهم
وافتَكَّهُ العمْرُ وافْتَكّـتْه
أشياءُ

ماكانَ يعرِفُها ..أشياء َ تكتُبه
أشياءَ يشطُبها….
حفظٌ واملاءُ

آناءَ آدم َ كانَ البدءُ منشغلا
إلاَّهُ كُلاًّ وكلُّ الغيرِ أجزاءُ

عِشنا بآدمَ أعباءً مُفرقةً
ثُم اجتمعنَا به ،والذنبُ ميناء

كالحِبرِ يعبرُ والأقلامُ تشربُه
ألقَتهُ معنًى على الأوراقِ فيزياءُ

تَحمَّلَ السَّيرَ …طولَ الآهِ ..شَقْوتَه
والسِّجنُ في عتْمةِ الوحداتِ إعياء

يا آدم َ النارِ كمْ خوفًا ستَحرِقُهُ
خُلودُكَ المُشْتَهَى، للإثمِ مَشَّاءُ

هيءْ كفُوفَكَ للأَوجاعِ، لُمَّ بها
جَمْراتِ جُرحِكَ لَونُ النَّزفِ حِنّاءُ

كمْ عِشتَ يابنَ مِهادِ الخَلقِ في حَذرِ
مُلِّكْتَ لُغْزًا ،وقَدَّ اللُّغزَ إغْواءُ
سمية اليعقوبي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.