قراءة في قصيدة تساؤلات للشاعرة خديجة بوعلي بقلم الأستاذ: أحمد جمرادي

تساؤلات :

هذه قصيدة تفوح جمالا من جمال الأطلس؛ تجد فيها دلالة الوفرة (ألف-اكتظاظ.أعمدة-غزارة-يملأ أوراق-شتائل-شعاع-نوتات-سنابل-فواح). هذا الإحساس بالوفرة لدى الشاعرة أراه نابعا من محيطها، فهو يغذي روحها ليصبح أداة طيعة في وجدانها تعبر به عن  ما يختلجها ذهابا وإيابا في عبور دينامي بين الوعي واللاوعي يكسب دفقتها  الشعورية كيمياء تشع جمالا (ينابيع الأمان-أعماق الحلم-المسرات والأفراح-لون الطيف-لحنا-يراقص الذاكرة-ينفض..الإنكسارات-تتبخر الأوجاع-فينبعث في الأفق-يرسم الأيام)، رغم تعبيرها عن الألم ( الوحشة- الغياب  -الدمع-أضاع-لهيب-أذبلها الخريف-اليابسة الصفراء-سأتيه بحثا).

وإذا كانت شعرية الشعر، وشعرية الشاعر تتحدد في لغته، فإنني من وجهة نظري لهذه القصيدة، أراها استوت شامخة موظفة الفعل المضارع (كدليل على الإستقبال والتجدد وعدم الركون والرضوخ للأمر الواقع، وهو ما تحيل عليه الوفرة أيضا بتجدد الحياة وتكاثرها وانتخات الأصح والأجود والأجمل فيها، (أتساءل-أنفض-أغير-تنير-تتفتح-يملأ-أستجمع-أتيه-أنسج-تحلو-أحبك-يراقص-ينفض-تتبخر-ينبعث-يغتال-يرسم).

بقي إلى أشير إلى أن الهندسة العامة للقصيدة هندستها الشاعرة (من زاوية نظري) حول محورين متماثلين هما محور الألم ومحور الأمل في توازن دقيق.

أما المكون الصوتي للقصيدة فيستمر في دهشتنا انسجاما مع الدلالات العامة التي بنيت عليها القصيدة، أذكر أن التشريح الصوتي الأولي أفرز مقومات تدعم الثنائية التي تطرقنا لها سابقا وهي (الوفرة، التقابلية الهندسية بين الألم والأمل) ؛ إذ يتزكى هذا الطرح. ولكن قبل ذلك لا بد من إطلالة سريعة على بطاقة رصدية للإنتشار الصوتي داخل القصيدة وتوزيعه، ومحاولة فهم كيف تم توظيف هذا التوزيع لخدمة الأغراض الأساسية عبر التعبير صوتيا.

لا بد قبل ذلك أن أشير إلى أنني سلكت طريقة تحليلية تنظر إلى الأصوات المهيمنة في البحث عن الدلالات (وفق محور الحضور)، ويتجلى ذلك في اعتبار الأصوات المترددة بتردد عالي نسبة إلى كل الأصوات، أما في محور الغياب (الأصوات التي جاء ترددها ضعيفا).

في محور الحضور الأصواتي (*)، نجد صوت (ل،47) هو المهيمن يليه صوت (ت،42)، ثم (ء،39)، وكذلك (ف،34)، هذه الأصوات هي المهيمنة في هذه القصيدة، حيث أن تردداتها تشكل أكثر من نصف الأصوات في القصيدة كاملة، وكذلك بالنسبة للمدود، المد المهيمن هو مد (ا،49).

وفي مستوى متوسط، نجد أصوات (ن،ر،ي) بترددات (27،27،28) ومستوى أقل ولكن ذي دلالة يمكن الإعتداد بها، أصوات (ب،و،ف) بترددات (19،20،22).

ماذا نستنتج من كل هذا ؟

نستنتج أولا أن الشاعرة للتعبير عن حالتها الشعورية  لجأت في كل مرة إلى مخارج الأصوات المتقاربة (ل،ن،ر)-(لثوي) مع (ي)-(غاري)،وكذلك (م،ب،و)-(شفوي) مع (ف)-(شفوي أسناني)، إلى جانب (ت)-(42) وهو صوت مهموس من خصائص الصواتة النسوية، وأعطى كل هذا في المحصلة قصيدة مجهورة من توظيف الوترين الصوتيين بطابع أنثوي، ومن حيث مجرى الهواء غلب عامل التضييق على الصوامت، فجاءت رخوية احتكاكية بنسبة ثلاثة صوامت من أصل أربعة أثتت هذه القصيدة.

ومن الملاحظ أنه حين الإنتقال من الإحساس بحالة الألم، وعندما قررت الشاعرة الإنتفاضة على الوضع القاتم وقلب هذه المعادلة، أي حينما قررت تبديل مسار الأحداث للعبور إلى محور الأمل، جسرت لهذه العملية عبر التكثيف من استعمال الأصوات (ل،ء)، ولكن دائما بحضور (ت).

الشاعرة إذن احتاجت إلى طاقة إضافية وحيوية لتقلب الرؤية الشعرية وكان ذلك انسجاما مع استعمال الفعل المضارع كما أسلفنا القول في ذلك.

كان هذا تأمل يسير في هذه القصيدة من الناحية الصوتية في محور حضور أصواتها، أما فيما يخص محور الغياب، فيمكن تسجيل أن آخر صوت لجأت إليه الشاعرة هو (ط،2)، جاء مضعفا ومرة واحدة يتيمة، وكذلك (ظ،ز،1) و (ص،3) و (ذ،ث،ض،د،غ،خ)، وأغلبها أصوات يشترك فيها إما جانب الهمس أو جانب الإنفجارية، والتي تطرقنا لها بطريقة غير مباشرة من قبل.

هكذا إذا يكتمل الإنسجام في هذه القصيدة التي بسطت محور الألم ولكن مدثرا بالوفرة، وأماطت عنه تأثيره المحبط عندما انتفضت الشاعرة وقررت توظيف أدوات تركيبية وصوتية تعلن من خلالها انتصارها لمحور الأمل..

خلاصة القول أن هذه القصيدة حازت من مكنونات الجمال ما يمكن استنباطه من جمال ثاوي في ذات الشاعرة في لاوعيها توظفه بشكل معقلن وواعي متجليا في تخطيط هندسي محكم، وتوظيف لأدوات لغوية (غنى المعجم الدال على الوفرة أيضا…)، وقد زكى التحليل الصوتي في مستواه الأول ما وظفته الشاعرة من توزيع صوتي جاء يخدم في تناسق بديع رؤيتها وأضفى جمالية على معانيها.

(*) : (صوت،تردد)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.