الروائي اللبناني” فايز غازي” في قراءة ذكية لرواية “جلجامش والراقصة” للروائية الجزائرية ربيعة جلطي
بقلم : فايز غازي /
“جلجامش والراقصة”استيلاد الأسطورة في كنف الجمود!
تستعيد ربيعة جلطي في روايتها أحد أقدم النصوص المدوّنة، ملحمة جلجامش، الملحمة الشعرية، الفكرية، الفلسفية والإنسانية التي تضرب جذورها في الألف الثالث قبل الميلاد والتي اكتشفت موزعة على اثني عشر لوحاً في مكتبة آشور بنيبال في نينوى. هذه الإستعادة لم تكن في معرض إستعراض الأسطورة بل إن ربيعة غيّرت في بعض تفاصيلها وزادت على ألواحها في سبيل البناء الروائي فتكون بذلك قد خلقت أسطورتها الخاصة. هل هذا الخلق هو خلقٌ روائي بحت أم يتعداه الى أن يكون ردّة فعل على الجمود العقائدي المجتمعي؟
هل هي إعادة استقراء التاريخ بوجهة نظر جديدة وبذلك الحاضر ونظرة على المستقبل؟! ربما،…
تغيّر ربيعة تفصيل “عشبة الخلود” فتجعل جلجامش يتناولها ويحظى بالحياة الأبدية وتبدأ بنقله حول الأرض من الزمن السحيق الى الزمن الحديث فتجعله يستمع الى أفلاطون ويشاهد اندثار امبراطورية وصعود أخرى ويشارك في الحربين العالميتين كرجل مخابرات.. الخ. هذا التجوّل اعتراه ندم جلجامش على رفضه الزواج من “عشتار” حين عرضت عليه ذلك وبدء السعي للعثور عليها مجددًا.
انا في العشق متعثّر الحظ، أبحث منذ آلاف السنين عن عشتار
من جهة أخرى تفصل ربيعة ما بين جسد عشتار وروحها! فيُحفظ جسدها في مكان ما بين المجرات وتقوم روحها بالإنتقال من امرأة الى اخرى، كل امرأة ناجحة أو مميزة في التاريخ كانت روح عشتار تسكنها، من كليوبطرا الى إديث بياف وصولًا الى الراقصة. هذا المعنى يصحّ فعليًا ومجازيًا في الرواية مما يفسح المجال للقراءة على عدة مستويات. أمّا المكان فكان مدينة وهران الجزائرية (التي سمتّها ولهانة، لكنها أعطت إشارات عليها مثل الكاتدرائية التي تحولت الى مكتبة، والشاب حسني، والحدود المقفلة،..)
الموت هو البطل الوحيد في مسرحية الوجود برمّته
يتخلل الرواية الكثير من الرموز الممتعة والإشارات الذكية بالإضافة الى الكثير من الأسئلة الوجودية:
1- عدم امتلاك الحرية بالولادة أو بإختيار الإسم بعدها
2- تسمية الشارع بإسم الشاعرالفرنسي الذي قتله الحب (ألفريد دي موسيه)
3- مطرقة نيتشة ونقد الفكر السائد ووجوب تفكيكه.
4- النجمة الثمانية او المثمنة (والتي نجدها منقوشة في أثار الرافدين وهي رمز لعشتار والكنعانيين لاحقًا ودخلت في الفن الإسلامي الذي حمله الأمويون الى الأندلس وانتشرت في المغرب العربي)
5- قصة اوتنابشتيم والطوفان
6- كارثة الزيوت في المغرب
7- محاكاة قصة يوسف وزليخة وآدم وحواء
8- أثر الموسيقى والرقص وتأثيره على الإنسانية
9- النفاق السياسي واستغلال الشعب من قبل حكّامه.
10- النفاق الديني وحجر الحريات والجمود العقائدي.
11- الربط ما بين جهاز المناعة البشري واحترار الأرض في كيفية الشفاء.
12- التغيّر الفكر الديني عبر التاريخ (أمومي – بطركي) وبعض تأثيراته المجتمعية والنفسية.
غلّبت ربيعة جلطي الجانب الإنساني على الجانب الإلهي في شخصية جلجامش وجعلته قابلًا للتطوير والتغيير كما صقلته بأخلاق الفروسية وجعلته متعففًا لا يشغل باله سوى إيجاد عشتار لأنه ظلمها وأخطأ بحقها، رافضًا كل الفرص المتاحة دون إستغلالها بل بإستيعاب حالات العشق وتحويلها إلى حالات إبداع (الفتاة التي أصبحت موسيقية)
تدرّجت الرواية الى نهايتها بالإشارات وازدادت الحرارة وصولًا الى تلك الخاتمة التي حملت معنبين أحدهما القيامة أو انتهاء الحياة على الأرض وهذا المعنى قد تمّ ربطه بالعلم. أمّا المعنى الآخر فهو النهاية المفتوحة والتي حملت معنى البعث والتي أتت من حيث المعنى قريبة من رائعة بولغاكوف المعلم ومرغريتا.
اللغة كانت متينة وواضحة، توقعت ان تكون مطعّمة بالمزيد من الشاعرية خصوصًا ان ثيمة الحب موجودة بشكل قوي في الرواية.
بشكل عام الرواية جيدة جدًا وممتعة، فيها الكثير من الأفكار والإسقاطات والتحذيرات وإعادة خلق للأسطورة.
أنهي مراجعتي بهذا الإقتباس الواضح:
لا بد اننا سنعود الى أوروك ذات زمن يا أنكيدو، ثم نذهب الى غابة الأرز ونصارع خمبابا من جديد.