فريدة عدنان تكتب : ” أسطورة سبتمبر”

نسمات باردة عليلة وخيوط الشمس الخجولة تتسلل عبر زجاج النافذة لتطبع قبلة حانية على وجنتيها الورديتين،حفيف أوراق الأشجار المتساقطة في كل مكان، تنسج لحنا هادئا كأنه صوت فيروزي قادم من جبال الأرز اللبنانية، وليل حنينها المرصع بنجوم الاشتياق يشع نوره من عينيها النجلاوين. اشتعل قلبها الصغير شوقا، والتهب لمعانقة عشقها السرمدي الذي تنتظر قدومه بشغف كل عام. إنه سبتمبر.
انتهت من ارتشاف فنجان القهوة المعطرة بريح الذكريات الجميلة،ألقت نظرة شاردة على الفنجان تستجدي صوته الرخيم وهو يداعبها قائلا:”من فنجان القهوة أنا أغار،” لكن سرعان ما تغلبت على شرودها. أسدلت شعرها الأسود الغجري الطويل و وضعت وشاحا قرمزيا على كتفيها ثم توجهت خارج منزلها بخطى متثاقلة كأنها تجر وراءها ذيول الخيبة.
كان الطريق شبه خال إلا من بعض الباعة المتجولين، وأوراق الأشجار المتناثرة على جنبات الطريق تتسابق كلما هبت نسمة غاضبة بين الفينة و الأخرى.
كان الممر المؤدي إلى الحديقة الكبيرة مفروشا بأوراق الأشجار المتساقطة من مختلف الألوان والأحجام والأشكال، تبدو مرصصة بعناية كأنها بساط أمازيغي يغري كل مشتاق.
دب فرح ممزوج بدفء الحنين في فؤادها إلى ذلك المكان الذي لم تطأه قدماها منذ آخر لقاء. اجتاحتها رغبة عارمة للولوج إلى تلك الحديقة الغناء بأشجارها الوارفة الظلال والورود .وقفت على أحد ابواب الحديقة السبع هنيهة تستجمع أنفاسها المتسارعة،ثم أغمضت عينيها كطفل صغير في أول خطاه وانسحبت إلى الداخل .
عانقت عيونها بشغف أركان الحديقة العتيقة وتنفست عبق الأندلس الفواح،تجولت بين ممراتها الجميلة كأميرة تشدو لجمالها العصافير وتتمايل لحسنها الأغصان. بعد جولة قصيرة في المكان .أحست بجرح غائر نزف. آوت الى ذلك الكرسي الخشبي قرب قصب الخيزران حيث لازال اسمهما منقوشا عليه ابتسمت في سخرية للقدر .لم يبق من أحلامهما الا هذا النقش الجميل. فأمواج الحياة العاصفة تقاذفتهما فارتطما بصخرة الواقع المرير، لتنهي حياة كل منهما إلى موطن آخر لا يشبههما. استرجعت شريط آخر لقاء لهما في ذلك المكان حين أخبرته أنها لن تستطيع أن تسافر معه خارج البلاد وتترك ابنهما للضياع فقد كان رضيعا ولن تحرمه من حضنها.
تذكرت كلامه الغاضب لها “أحقا أنت مدركة لما تقولين؟ أين أحلامنا وآمالنا وطموحاتنا، وما حدثتني به عن حياة الكفاح والتحدي وإثبات الذات..” ردت بصوت منكسر ” كان حلما جميلا وهذا قدرنا لن ارضى لابني حياة اليتم وأبواه على قيد الحياة. قاطعها بنبرة فيها شيء من القسوة وكثير من الاعتراض، لقد حكمت على أرواحنا بالإعدام. راحت تجتر كل كلمة وكل حرف وهي في هذيان تام.
هبت نسمة قوية تطاير على إثرها وشاحها القرمزي الجميل وعلق بأغصان احد اشجار الحديقة ركضت خلفه فإذا بيد طفلة جميلة تمتد لتلتقطه، فصرخت “حذار أيتها الصغيرة من أن تصيب يدك الأشواك” استدارت الطفلة ذات الجدائل الذهبية والعيون الباسمة بلون السماء وكأنها نسخة من زوجها الذي انقطعت أخباره عنها منذ آخر لقاء ، كان وقع نظرات الطفلة كقرع الطبول ، زلزل كيانها فاستدارت بسرعة كأنما تبحث عنه، فصدق حدسها حين لمحته جالسا على نفس الكرسي الخشبي مستديرا نحو قصب الخيزران. خفق قلبها وشل تفكيرها. في تلك اللحظة ناولتها الطفلة الوشاح، وانطلقت كفراشة نحوه، تراقص النسمات وتغني لحنا طفوليا رقيقا.
أمسكت هي بالوشاح واستجمعت قواها واتجهت نحو الباب تمنت أن يكون مجرد شبح تراءى لهافي المكان، لكن ما إن اقتربت من الباب حتى سمعت وقع خطى تسرع خلفها، ثم بادرها بصوته الهادئ أحقا أنت؟!، أخيرا أتيت. كم اشتقت لذلك العطر الفرنسي الممزوج بعطر أيلول. كل عام أحتفل بيوم ميلادك الذي هو نفس يوم ميلاد ابنتي، حتى اسمها اخترته من اسمك، وانتظرت أن تأتيني يا أسطورة سبتمبر.
ظلت تسمع كلامه دون أن تلتفت إليه، وقبل أن تتابع سيرها، توسلها أن تمنحه لحظة، لحظة واحدة فقط، ليبوح لها ببعض حديث نفسه الذي ظل يكتمه منذ أعوام، استدارت إليه وعيناها لاتبرحان تنظران إلى موضع قدمها.”لقد توفيت زوجتي الفرنسية في اليوم الموالي لولادة ابنتي، عدت أبحث عنك رغم أني لا أمتلك الشجاعة الكافية لأواجه نفسي بين يديك، كنت واهما عندما تصورت أن المستقبل مرهون بالسفر ، تخليت عنك وعن ابني الذي أخال شكله و أرسم قسمات وجهه من ملامحك مع حلول كل عام في شهر سبتمبر. لم أكن عادلا وأضاف بصوت فيه حشرجة لقد فقدت روحي حين فقدتكما. ظلت مطرقة وهي تسمع كلامه، تقاذفتها المشاعر، فلم تدر ما تفعل أو ماذا تقول، ثم استفاقت على صوت ذلك البائع العجوز الطيب الذي كانا يقفان على عربته ليشتري لها الفول السوادني الساخن، يصيح اشتري السوداني المقرمش وانس الأحزان إنه سبتمبر فيه تتجدد الأوراق وتطيب الجراح.

بقلم/فريدة عدنان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.