العتبات النصية في خدمة النسق الروائي دلاليا…ورواية “حافلة حمّادي”

حسن بوسلام/

 

رواية “حافلة حمادي” لكاتبها محمد الصفا، الصادرة في شهر أكتوبر 2022، هي رواية ذاكرة الحكي التي تحتفي بالمكان في بعده النفسي والثقافي وكذلك الرمزي، من خلال بنية سردية ملتوية لا تخضع لمنطق الزمان في بعده التسلسلي، فهو تارة سرد راجع إلى الماضي من خلال صوت موموح الطفل، آليته الذاكرة كخزان، وتارة أخرى سرد صاعد من داخل ذاك الزمان الراجع عبر حافلة حمّادي التي ستساهم في تغيير المكان وتغيير العالم الأول عالم تاحفورت إلى عالم جديد يحمل ثقافة جديدة ووعيًا جديدًا وشخصية مختلفة عن الشخصية التاحفورتية، لننتقل إلى سرد مؤسس لازدواجية فيها صراع بين الثابت المكاني والمتغير الثقافي الذي تحمله الشخصية.
من داخل هذا الزمان نعيش مع الكاتب حكيا جديدًا يستحضر فيه التاريخي من خلال الوثائق التي مدها إليه يوسف النادل في المقهى، ومن داخل التاريخي يتشكل العالم الرمزي والأسطوري عن طريق الجدّ الذي سيظهر وسيحمله موموح إلى قمة الجبل حيث توجد الجدّة التي افترق معها مدة زمنية طويلة. هذا ما جعلني أسمي هاته البنية السردية بالبنية السردية الملتوية، التي تجعل القارئ ينتقل من مشهد إلى آخر دون أن يحس بالملل.
لكن، لنرجع إلى العتبات النصية التي هي الصورة التشكيلية والعنوان والإهداء، ولنحاول أن نربطها بالمؤشرات الدلالية التي رسمها الكاتب، لنبين أن اختيارها لم يكن اعتباطيا بل هو مخطط له أثناء عملية الحكي متعدد الزوايا بتعدد الأصوات.
يقول في هذا الصدد هشام محمد عبد الله، والقول لهنري متران في كتابه “اشتغال العتبات في رواية: من أنت أيها الملاك.. دراسة في المسكوت عنه”: “إنه لا وجود لشيء محايد في الرواية، فإن كل ما هو متصل بالمتن الروائي من أشكال وألوان وأيقونات وعلامات سيكون مقصودًا ومتأسسًا على قصدية مسبقة اشتغل عليها الكاتب فعلا”. هذا ما سأوضحه باختصار عند تمفصلات العتبات النصية بالنسق الروائي ومساهمته في خدمة الماقصدية المختفية وراء الأشكال السردية البانية لأحداث الرواية.
أول ما يصادفنا ونحن نلامس حجم الرواية هو الصورة التشكيلية التي استعارها الكاتب من فنان تشكيلي ياباني بعد أن أخذ الإذن منه، وبعد أن شرط عليه هذآ الأخير الاطلاع على مضمون الرواية فكان له ذلك وتمت المصادقة.
في أول التقاط بصري لهاته اللوحة التشكيلية الانطباعية، نلاحظ جبلين؛ جبل عال بجانبه جبل أقل ارتفاعا من الأول، لكن عند التركيز في الصورة نشاهد رأسين لفيلين الواحد يقابل الآخر، في كل رأس عين زرقاء، وفي هذا التوظيف من داخل اللوحة عدة دلالات وأبعاد رمزية. فالفيل في الثقافة الآسيوية يرمز إلى القوة والصبر والأمان، كما يرمز إلى الأمل والحياة الجديدة، إذن تلاقي الجبل مع صورة الفيلة له اعتباراته، فحتى الجبل له الاحالات الدلالية نفسها، فقط الجبل يرمز إلى الثبات والفيل يرمز إلى الحركة والانتقال من مكان إلى آخر. كما نلاحظ في الصورة مجموعة من الأشخاص عراة يصعدون من الماء محاولين الوصول إلى قمة الجبلين حيث يوجد رجل آخر يمد يده إلى طائر أسود محلق في السماء يريد الإمساك به. ان هاته الأيقونات تقدم لنا دلالات عميقة من داخل المشهد المرسمي ووفق الأبعاد التي انطلق منها الرسام وفق المنظومة الثقافية اليابانية، لكن فعل الاختيار يؤكد وعي الكاتب بالعلاقة الممكنة التي ستخضع لمنطق الأحداث وللرؤية الفنية المشكلة للنسق السردي في بعده الدلالي.
نلاحظ هنا فعل الصعود من الماء الذي اعتبره مسار الحياة، لكن هنا يصبح مصدرًا للموت، الشيء الذي يجعل هؤلاء الأشخاص يصعدون جماعات وهم عراة من كل شيء يربطهم بالعالم المادي، العري هنا في الثقافة الأنثروبولوجية هو أصل التكوين، وهو الحقيقة الأولى وهو بدء الحياة، والوصول إلى القمة هو وصول إلى مرحلة الانعتاق والحصول على الحرية التي يحاول كل شخص أن يحصل عليها بإمساكه لذاك الطائر الأسود. لكن إيهامنا بأن الجبلين هما رأسا فيلين هنا، يجتمع الثبات بقوته وعظمته (الجبلان) بالحركة الموسومة بالصبر والقوة والقدرة على التحمل. القمة هي الحقيقة المبحوث عنها، هي النجاة، وهذا ما نلاحظه عندما نربط هاته المكونات التشكيلية بالنسق السردي، هناك الصعود إلى جبل بويبلان مع الجدّ محمولًا على الظهر، مثل سيزيف الذي يحمل الصخرة، لكن الفارق هو أن الصخرة تتدحرج لكن الطفل يصمد في حمله لجدّه (حمل الماضي بكل أثقاله) بعد أن تخلص من الحقيقة التي حملها معه من المدينة وإن كانت آثارها مازالت عالقة في ذاكرته، لأنه يسعى أن يمسك بالطائر الأسود، والتي هي الجدّة في عالمها الأسطوري والرمزي، كي يعيد ترميمه وإعادة الحياة فيه نافخًا فيه من عمق السرد مخلفات تاحفورت القرية العالقة على ظهر الفيلين اللذين يتحركان حركة حافلة حمّادي الذي اختار الكاتب أن يعنون بها روايته. حافلة غيرت مجرى الأحداث، لأنها ستصنع لنا شخصية أخرى خارج صوت الطفل موموح الذي حاول جاهدًا أن يحافظ على الحياة في تاحفورت والبِيرُو بحفاظه على الطفل فيه وأن يمنعه من أن يكبر رجلًا متمردًا على كل التقاليد. لكن الضفة الأخرى (متابعة الدراسة في تازة) جعلتنا نتابع من داخل سيارة موموح الكبير أحداثاً جديدة ووقائع مختلفة، يبنيها صوت العقل، فتظهر من ورائها خلفيات فكرية أسست مواقف جريئة للكاتب من مجموعة من القضايا الثقافية والاجتماعية التي ما زالت ثابتة على تخوم جبل بويبلان الصامد.
هاته الخلفيات الفكرية التي كانت المحرك الأساسي لكتابة هاته الرواية يترجمها الإهداء الذي تصدر الرواية، وهو إهداء إلى حفيده عثمان، حيث أمره أن يتذكر جدّه، أي أن يبقى متمسكا بأصوله البانية وليست المهدمة، هذا الجدّ الذي حمل معه سر الحياة التي تحولت معالمها في هاته القبيلة، وهذا ما جعله يحمله على ظهره كي يخلصه من الضياع والموت الذي لحق المكان، ويصل به إلى الجدّة حيث بداية الحياة الحقيقية والاستمرارية داخل العالم الأسطوري الذي سيبقى شاهدًا على موت وشيك لهذا الطفل الذي سيكون هو الآخر قبره في الجبل وستموت معه القرية وستضيع الحقيقة.
إذا كانت الرسالة موجهة إلى عثمان في الإهداء فهي في الحقيقة موجهة إلينا كي نكتشف الاسناد التي اعتمد عليها في نسج خيوط روايته، ألا وهي:
1- التذكر يفضي إلى عدم نسيان المكان.
2- الأشياء القيّمة تكون دائمًا في القمة (الجد والجدة في القمة، الطفل سيموت في القمة، الحقيقة في القمة).
3- القيمة يغيرها الزمان (كما ستتغير تاحفورت بتغير المكان والزمان).
4- قطف النجوم يتطلب استعمال العقل (وهذا ما فعله الكاتب في نقده لمجموعة من السلوكات والثقافات الخرافية التي ما زالت تسكن القبيلة).
5- الحركة لأنها الوسيلة في الحفاظ على التوازن لمواجهة الحياة (فعلًا حركة الطفل موموح من داخل حركة حافلة حمّادي سيتمكن منها من اكتساب معرفة جديدة بها سيواجه كل المتغيرات.
6- “الثبات على المبدأ حتى لا تجرفك سيول العولمة فتخضع لدكتاتورية الشبكة”، هاته وصية الكاتب تقاسمها مع وصايا الجدّ، وصية الذاكرة والتاريخ تتفاعل مع وصية الآني والسياسي.
هكذا، نكون أمام ملحمة تشابكت فيها الأصوات، وتفاعلت معها القضايا المطروحة، وعشنا مع الكاتب ازدواجية، بين الثقافي الأمازيغي في بعده المكاني والأنثروبولوجي، وبين الثقافي العربي في بعده اللغوي والفكري، فكان السفر معه في حافلة حمّادي شيقًا لأننا عشنا تيمات مازلنا نناقشها، كمسألة الهجرة، التصور الذي نحمله للمرأة، مسألة ضياع القرى المغربية وعدم التفكير في تطوير أساليب الحياة فيها، موقفنا من الخرافة، وممن يفهم الدين فهمًا خاطئًا، وغيرها من القضايا التي نجح الكاتب في طرحها بكل جرأة. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.