تأثير نوعية العمل على سلوكيات العامل

بقلم للا إيمان الشباني /

تلعب نوعية العمل دوراً محورياً في تشكيل سلوكيات الأفراد وتوجيه تصرفاتهم اليومية، سواء كانوا رجالاً أو نساء. فالعمل ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هو جزء من هوية الشخص، يؤثر في طريقة تفكيره ونظرته للحياة وتعاملاته مع الآخرين. الطبيب مثلاً يتعلم الانضباط والدقة، ويتعامل مع ضغوطات كبيرة تتعلق بحياة المرضى، مما يجعله أكثر وعياً بأهمية الوقت وأدق في مواعيده، وقد ينمي لديه حساً عالياً من التعاطف والمسؤولية. في المقابل، قد تجد رجل الأعمال أو رائدة الأعمال يتسمان بالجرأة وحب المغامرة، حيث تفرض عليهما طبيعة عملهما اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة، والتأقلم مع التغيرات المفاجئة في السوق
أما الأعمال التي تعتمد على الإبداع والفن، مثل الكتابة أو الرسم أو الموسيقى، فهي تعزز حساسية الشخص تجاه التفاصيل وتجعله أكثر تأملاً وانفتاحاً على الأفكار الجديدة. هؤلاء الأفراد غالباً ما يكون لديهم وعي داخلي عميق ويبحثون عن المعاني وراء الأشياء، وقد يتسمون بنوع من العزلة أو التأمل الدائم في محيطهم. على النقيض من ذلك، الأعمال الروتينية أو الميكانيكية التي تتطلب تكراراً مستمراً لنفس المهام قد تؤدي إلى شعور بالملل أو الرتابة، وقد تؤثر على الحماس والطاقة الداخلية للفرد

ولا يمكن تجاهل تأثير بيئة العمل على السلوكيات أيضاً، فالأعمال التي تتطلب العمل ضمن فريق تعزز مهارات التواصل والتعاون، وتعلم الفرد كيفية التعامل مع الشخصيات المختلفة، بينما قد تجعل الوظائف الفردية الشخص أكثر استقلالية وربما أكثر ميلاً للعزلة. أما بالنسبة للضغوط المهنية، فهي تلعب دوراً مهماً في تشكيل سلوكيات الأفراد. فالأشخاص الذين يعملون في بيئات شديدة التوتر قد يصبحون أكثر عصبية أو قلقاً، بينما الذين يعملون في أجواء مرنة ومريحة يكونون غالباً أكثر هدوءاً وإيجابية في تعاملاتهم
ولا يقتصر تأثير نوعية العمل على السلوكيات فحسب، بل يمتد ليشمل القيم والمعتقدات. فالأشخاص الذين يعملون في مجالات خدمية، مثل التعليم أو العمل الاجتماعي، قد يطورون شعوراً عميقاً بالمسؤولية تجاه المجتمع، ويؤمنون بأهمية التضامن والمساعدة المتبادلة. أما العاملون في المجالات التقنية أو الهندسية، فقد يصبحون أكثر اهتماماً بالدقة والتفاصيل، ويطورون ميلاً لتحليل الأمور بشكل منطقي ومنهجي
من ناحية أخرى، تؤثر طبيعة العمل أيضاً على الحياة الشخصية والعائلية للفرد. فالأشخاص الذين يعملون لساعات طويلة قد يجدون صعوبة في موازنة حياتهم المهنية والشخصية، مما قد يؤثر على علاقاتهم بأسرهم وأصدقائهم. أما من يتمتعون بمرونة في جداول عملهم، فقد يكون لديهم وقت أكبر للتفاعل الاجتماعي وتطوير هواياتهم. وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل تأثير العمل في المجالات المرتبطة بالسلطة، مثل رجال الشرطة أو العسكريين. هؤلاء الأفراد غالباً ما يطورون سلوكيات تتسم بالصرامة والانضباط الشديد، وهي صفات ضرورية لطبيعة عملهم. غير أن هذا الانضباط قد يمتد إلى حياتهم الشخصية، حيث يصبح بعضهم متسلطين في تعاملاتهم مع أسرهم، وخصوصاً مع أبنائهم، وقد تعاني زوجاتهم من هذه الصرامة التي قد تتحول أحياناً إلى قسوة أو عدم تفهم لاحتياجات الأسرة العاطفية
لهذا السبب، من الضروري التفكير في إدماج الدعم النفسي داخل المؤسسات التي ترتبط بالسلطة أو العمل العسكري. وجود أطباء نفسيين في هذه الإدارات يمكن أن يساعد في تحقيق توازن نفسي للأفراد العاملين، ويجنبهم نقل ضغوط العمل إلى حياتهم الأسرية. الدعم النفسي ليس فقط للعاملين أنفسهم، بل يمتد تأثيره ليشمل محيطهم العائلي والاجتماعي، مما يساهم في بناء بيئة أكثر توازناً وصحة على المستويين الشخصي والمهني
يبقى أن نقول إن تأثير العمل ليس واحداً على الجميع، فشخصية الفرد وخبراته السابقة تلعب دوراً في كيفية تفاعله مع طبيعة عمله. البعض قد يجد في الضغوط المهنية دافعاً للتطور، بينما قد تنهك هذه الضغوط آخرين. وبعض الأشخاص قد يجدون في العمل الروتيني استقراراً وراحة نفسية، بينما قد يشعر آخرون بأنه يقيد إبداعهم ويحد من حريتهم
في نهاية المطاف، العمل جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، ويؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على سلوكياته ونظرته للعالم. والقدرة على فهم هذا التأثير يمكن أن تساعد الأفراد على تحسين علاقتهم بعملهم، وتطوير أنفسهم بشكل يجعلهم أكثر توازناً ورضاً في حياتهم المهنية والشخصية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.