الموتى يُغسّلون، وأنا كذلك كنت مُكرِمة للموت!
بالأمس كنت أُغسَّل استعدادا لفاجعة الأحداث، واليوم أغتسل من فواجع الأحداث!
أقف أمام المرآة عاريةً مني، كي أراني بكامل الصفاء وأنا أحمل هزائمي الأخيرة على هودج الخيبات، وأدخل ليلة أدونها في الغد القريب. أسترجع فصولها الجريحة كما يسترجع الصدى أصوات الغائبين!
يعاودني الحنين إليكَ فأستحضرك مرة أخرى، وأدمن النظر إلى الخلف، أقتني من متحف الذاكرة لوحة أعيش ولو على هامش إطارها، أيامي الباقية!
ربما قَطيعتي معك كل هذه السنين هي التي جعلت مني امرأة في مهب الألم!
أعيش ضآلتي وما استبقاه الزمن على قيد جدوى.
لم يكن يبهرني شيء سوى حبك الذي كان يسري في دمي بانتظام، كأنه حقنة “مرفين” جارية المفعول، رافقتني لمدة عشرين سنة!
حبك هو الخيط الوحيد الذي يشدني إلى أحبال الحياة!
خيط رقيق تكاد العين لا تدركه!
لكنه أقوى من أن يفسَّر، أكبر من أن يُرى، أصلب من أن يُنْخر ويَندثِر!
لغاية أنني أسأل نفسي الآن من كنتُ؟ وأي كائن هذا الذي يستحمل الذي استحملته دون أن ينهار، ودون أن يفكر ولو مرة في الهروب أو الانتحار؟!
ربما كنت أضخم من الانتحار، أو أقزم منه. فلكي نواجه شيئا كالانتحار، لابد أن نكون في مستوى قوته ولعنته!
لم أفعل!
ربما حبا في إرادة الحياة!
أو ببساطة حبا فيكَ!
فلو جئتُك منتحرة ستستاء مني، وتقول:
- متى كان الكبرياء ضعيفا كي ينتحر؟!
أنغمس في ضجيج الأحداث، أرفع كلفة الحرج عن ذاكرتي، وأسرف في استحضار وجهك وطفولتي.
أصنع من الماضي البعيد حاضرا، أمتطي به أمنية الخلاص في انتظار الخلاص!
قلتَ لي: إن الأمر إذا عسعس، فإنه بشارة للخلاص.
إذن سيأتي يوم أجعل فيه الحاضر ماضيا، وأتخذ من الخلاص وسيلة، في رحلة النسيان الأبدي.
أنا الآن على عتبات اليقين أن قيودي كلها قد كسرها الموت.
ما أريده الآن: هو أن تعرف أنني لم أنسَكَ أبدا، وأن روحك هاهنا معلقة داخل قفص شهيتي إليكَ، وأنك وحدك الحقيقة اليقينية لكل مبهمات الأشياء.
أريدك أن تعرف أنك حاضر داخل زمن الغياب، لأن الموت أهبلُ من أن يقتل حضورك!
وأنك كنت مضيئا في أفول الأحلام!
قلت لي يوما: إننا ننتهي بانتهاء أحلامنا!
وقبل أن أسألك، ضممتني وهمست في أذني:
- أنتِ كل أحلامي! أنتِ وحيدة أحلامي!
الفصل الثالث من روايتي ذاكرة الحقائب