الأديب التونسي رشدي الخميري يكتب قصة : سراب 5

سيّدتي وأصدقائي ما كنّا لنعرف عن حكاية سمير في المدرسة الابتدائيّة وما قبلها لو لا التحاقه بالمعهد الثّانويّ الحرّ فهناك اضطرّ سمير وأبوه” الجديد” أن يفصحا عن الهويّة الحقيقيّة لسمير من خلال أوراق تثبت أنّه زاول تعليمه الأساسيّ بالمدرسة الإبتدائيّة إلى حدّ السّنة السّادسة التّي رسب فيها ولم يرجع بعدها إلى المدرسة عندما كان ينتمي إلى عائلته الأولى الّتي تبنّته أمّا عن قصّته معها فمن خلال حديث لمدير المعهد مع والد سمير بالتّبنّي على هامش لقائه به أثناء تسجيل سمير بالمعهد. في ذلك اليوم كان سمير ليغضب من إفشاء سرّه لكنّ أباه أقنعه بضرورة ذلك وإلاّ لما منحهم المدير الموافقة إذ كان لا بدّ له من وثائق قانونيّة ليكون وجوده في المعهد قانونيّا. فتقبّل سمير الأمر على مضض لكنّه عندما رأى شهادة تسجيله الّتي أراها إيّاه كافله سلّم بالأمر بل وفرح خاصّة عندما داعبه أبوه الجديد. زملاؤه في دار الشّباب كانوا يعرفون حكايته تلك فمعضهم من الجيران القدامى وقد كتموا سرّه لأنّهم أحبّوه من جهة وكانوا قريبين منه جدّا ليفهموا أنّ تلك الحكاية تزعجه وتعيد له ذكريات قديمة مؤلمة من جهة ثانية. بدأ سمير مرحلة جديدة من حياته ألا وهي مرحلة الدّراسة في المعهد. كان سمير غريبا كأغلب المتمدرسين هناك وشيئا فشيئا تبدأ العلاقات بينهم تتوطّد كزملاء أو كأصدقاء أو …لأنّ سميرا كان مقرّ العزم على التّفوّق وإعلاء شأنه وشأن من تبنّوه فقد كان حريصا على الحضور في الوقت والمثابرة على بذل الجهد في القسم وخارجه حتّى يحصّل نتائج باهرة. وبدأ يجلب له نظر الأساتذة واهتمامهم بما هو عليه من سلوك وأخلاق واجتهاد في الدّرس. وحضور سمير لم يجلب انتباه الأساتذة والإدارة فحسب بل وجلب أيضا أنظار التّلاميذ. وبدأت علاقاته تتوسّع في صفوف التّلاميذ والتّلميذات في فصله وحتّى من الفصول التّي لا ينتمي إليها فقد علّمته الحياة أن يحسن اختيار أصحابه ولكي يتمكّن من ذلك فهو يوسّع علاقاته ليفرز أحسنها. تتوالى الأيّام ويتقدّم التّلاميذ في دروسهم وتحصيلهم العلم وسمير من بينهم لكنّه أبدى تفوّقا كبيرا على أقرانه في فصله بل وبات ينافس المتفوّقين من التّلاميذ في الفصول الأخرى داخل المعهد فازدادت علاقاته توسّعا وذاه صيته كأيّ ظاهرة جديدة في مجتمعنا. وهنا أصبح ميل البنات له ظاهرا وجليّا حتّى أنّ بعضهنّ يعرّفنه على والديهنّ ليستطعن اصطحابه للمنزل عسى أن يراجعن ويذاكرن معه ويستفدن منه وقد يتقرّبن منه. لكنّه كما جلب انتباه وتعلّق أغلب زملائه فقد أشعل فتيل الغيرة منه لدى البعض خاصّة من الأولاد فهو متفوّق في الدّراسة وفي اكتساب إعحاب الفتيات به، لكن لم يجرؤ أحد من الأولاد على إظهار ذلك أمام سمير فهو قويّ البنية بفعل ما واجه به الحياة عندما كان متشرّدا وهو سليط اللّسان وطليقه إذا ما أوذي. كان سمير يشعر بذلك فكان يتعمّد التّقرب من كلّ النّاس والاجتماع بهم فمن خلاله قد يكسب البعض الإعجاب ببعضهم البعض في إطار تجمّعهم هذا فيخفّ الأمر عن سمير.. وسمير أيضا يسعى إلى أن يحافظ على صورة كان قد رسمها لنفسه فلا تفسدها له علاقات عابرة أو غيرة غير مبرّرة بالنّسبة له..لا يريد في هذه المرحلة من حياته إلاّ الإرتقاء بشخصه وعلمه وكسب علاقات تجعله يحظى بالأمان والرّاحة النّفسيّة وهو في أشدّ الحاجة لهما.
دأب سمير على ذلك السّلوك السّويّ سواء كان ذلك في تصرّفاته كصديق او كتلميذ . كانت عائلته الّتي تؤويه فرحة به وتشجّعه حتّى أنّ أباه كان يزوره بين الحين والآخر في المعهد ليطمئنّ عليه من جهة وليعلي من شانه بين زملائه من جهة أخرى إذ يكفي أن يرى النّاس انسجامهما وطريقة التّعامل الرّاقية بينهما حتّى يقدّروا سميرا ويحظى لديهم بالاحترام وإعلاء الشّأن خاصّة لمن يعانون مشكلة تواصل داخل عائلاتهم فيتعلّمون منه الشّيء الكثير. خارج المعهد كان سمير يختار وجوها معيّنة ليتصاحب معهم أثناء العودة إلى المنزل. لم يكن هذا الانتقاء بالنّظر إلى المال أو الجمال او الهندام بل للسّلوك المتّزن والقدرات الّتي يملكها ذلك أو تلك. واستمرّ سمير على هذا دون أن يشعر الآخرين من دون أصحابه حتّى خلق لنفسه مجموعة قد تكون الأنجب في المعهد والأكثر هدوءا ودماثة أخلاق وبذلك بدأ في تأصيل جديد صنعه لنفسه وقد يكون فرضه على نفسه ليبني له نهجا صحيحا في حياته او هكذا يزعم. لكنّ ذلك لم يعن أبدا أنّه اعتزل البقيّة من زملائه الجدد أو حتّى القدامى من السّوق أو دار الشّباب فلكلّ من أولئك مقاما يلتقي فيه معهم ولكلّ مقال أو طريقة تعامل وهم فعلا أصدقاؤه وعلاقاته بهم وطيدة حتّى بعد دخوله المعهد للدّراسة.
في يوم من أيّام الدّراسة زاره أبوه وهو يتّقد غضبا وحتّى مقابلته بسمير كانت قصيرة اتجه على إثرها سمير ووالده بالتبنّي ليطلب إذنا بالمغادرة من إدارة المعهد لأمر عاجل. هذه الزّيارة وبالشّكل الّذي تمّت به أحرجت الشّاب وكان يريد قراءة ردّة فعل زملائه من خلال عيونهم أو إشاراتهم لكنّه لم يظفر بشيء يهدّئ من روعه فذهب مع متبنّيه يحمل معه تساؤلات حول ما قد ذهب في أذهان خاصّة من حوّطهم به ومقرّبيه.
في طريقهم نحو مكان لا يعرفه سوى الأب كانا يتناقشان وبحدّة وبدا أنّ سميرا في ورطة والأب يريد مأتاها أو ماهي في حين كان سمير يريد أن يفسّر شيئا ما أو ينفي عن نفسه أيّ خطإ قد يذهب في ذهن الأب أنّ ابنه ارتكبه ولم يتوقّفا عن ذلك الحوار إلاّ أمام مركز الشّرطة حيث تقدّم الأب عن ابنه وتواصل مع عون تكفّل بإدخاله إلى رئيس مركز الشّرطة فهو في انتظاره مصحوبا بابنه. دخلا وطال مكوثهما ولمّا خرجا كان الأب يقبّل ابنه من رأسه مرّة ومن خدّيه ليتوقّفا من حين لآخر فيتبادلا الحديث والضحكات ثمّ يسترسلا في السّير حتّى وصلا إلى المعهد وهناك كان الاستغراب والتّعجّب لدى التّلاميذ الّذين شهدوا على اللّقاء الأوّل حين جاء الأب ليصطحب سميرا معه إلى حيث لم يعلم أحد. وإن كان هناك من سيذهل هنا فالتّلاميذ هم الّذين سيذهلون. وإن كان هناك من سيتوه في أمره فكلّ من كانت عينه على سمير حين جاء متبنّيه ليأخذه من المعهد وكلّ من

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.