فريدة عدنان “جيب معطف”

أخرج كمال من الدرج ورقة وقلما ، وجلس في غرفة المكتب المطلة على مسبح منزله كما يفعل صبيحة كل يوم خميس ، وهو يدندن ألحانا من التراث الشعبي القديم. فهو ينحدر من بلدة أناسها يجيدون ركوب الخيل ونظم الشعر.
توقف كمال برهة عن الكتابة وكأنه تذكر شيئا مهما. نهض بخفة وأخذ يتحسس جيب معطفه القديم المعلق على المشجب.
ابتسم في حنو بنظرة تعلوها مسحة حزن ، وخياله يجوب الروابي الخضراء ودور الطين العتيقة ويعيد رسم لوحة الجبل الأحمر المتلألئ بحبات الملح الذي يتوسط بلدته الصغيرة . ودعاء كبار السن له تهدهد مسامعه وكأن كفوفهم التي كان يقبلها إجلالا واحتراما لا زالت تسعفه كلما نازلته الحياة.
تلك الحياة الجديدة التي لم يعتد عليها يوما. فهو المغترب اليوم ببلاد لا تشبه في شيء رغم أنها أهدته كل شيء.
عاد إلى مقعده
وأخذ هاتفه الخلوي وهو يحدث نفسه : اليوم ستكون رسالتي إليك مختلفة في شكلها ومضمونها يا عزيزتي نوال. اليوم قررت أن أتحرر من القيود الوهمية التي تكبلني منذ سنين وأبوح بكل شيء يجثم على صدري.
براءة نوال التي لم تفسدها عوادي الزمان جعلت منها ذلك الركن الركين الذي يستكين إليه كمال كلما تلاطمته أمواج الحياة العاتية .
خامرت كمال الذكريات وأطلق العنان لقلبه قبل قلمه مستهلا رسالته:
أنا اليوم عاجز أن أجد لك وصفا أناديك به وصفا يليق بي وبك .هل أقول عزيزتي؟ أم حبيبتي؟ أم يا عمري الماضي؟
سأناديك بحلمي البعيد لقد قررت بعد طول كل تلك السنين أن أعاند قرارات الزمن و أبوح لك بحبي الكبير الذي يخنق أنفاسي. فمنذ اليوم الذي رأيتك فيه تمتطين الفرس الأدهم دون لجام صرت أسيرا لعينيك العسليتين وصرت أعشق ركوب الخيل أكثر وأكثر.
كان حبي لك يكبر كل يوم وأفتعل الصدف كي أحظى بقربك من بعيد. حتى وإن لم نكن نتبادل أطراف الحديث ، كنت أشعر بانجذابك نحوي بنظراتك الخجولة التي كانت ترمقني فيتزلزل بها كياني .
مرت ثلاث سنوات وأنا أمني النفس بكلمة بلقاء بأي شيء يأتيني منك.
كانت السنة الأخيرة لي بالبلدة عزمت وقررت أن أبوح لك. أن أصارحك أن أفعل أي شيء يقربني منك.
كتبت رسالة بحت لك فيها بكل أحلامي وآمالي بمستقبلنا المشرق حتى أني أخبرتك فيها عن ليلة زفافنا وعن أسماء أبنائنا…عن…وعن.. أحسست وكأن جبلا يتصدع في صدري اجتاحتني سكينة وخلذت وقتها لنوم عميق .لم يوقظني صوت الرعد المدوي في السماء الذي كان كمن ينذر بالوعيد وأنا من شدة فرحي بلقائك المرتقب حلمت أن طبولا تزفك إلي ليلتها.
صباح ذلك اليوم استعرت ريش حمام وطويت المسافة إلى الثانوية وأنا أتحسس جيب معطفي الذي وضعت به الرسالة .
عند الباب كان يقف المدير مقطب الحاجبين كعادته بملامحه التي كدت أجزم أنها لم تصادف يوما معنى الانشراح. بعد دقائق تأكد ظني فلم أشعر إلا وكفه يلامس وجهي بخفة وألم حتى شاط منها لهيب في عز البرد صارخا في وجهي لماذا تبتسم لوحدك لابد أنك قمت بفعل مشين؟!! لم يضرني فعله أو كلامه لي. فبعض الناس يصرون على أن يجعلوا كل شيء جميل مرتبط بذنب .لم يكن يعلم أن ابنته هي السبب في ابتسامتي .صفعته تلك أفاقتني من أحلامي الكبيرة جبُنت حينها ولم أستطع تسليمك الرسالة اكتفيت بتحسسها في ألم وبقيت أتحسسها طيلة السنة الأخيرة لي بالبلدة وطيلة السنين التي مضت وأشعر بلهيب يتقد في وجنتي كلما حل الشتاء.
والآن وبعد كل هذا العمر عدت من جديد لأخط لك رسالتي الجديدة القديمة
التي أخرجتها للتو من جيب معطفي بعدما اهترأ وتقادم مداد كلماتي. ليتني تخليت عن جُبني وقتها ولم أتخلى عنك فذاك كان أكبر ذنوبي.
ذيل كمال الرسالة بتوقيعه وأرسلها لنوال دون مراجعة كما كان يفعل دوما، كأنه يريد التخلص منها خوفا من أن تظل عالقة كما علقت آماله وأحلامه في يوم من الأيام.
استوى كمال في جلسته على الأريكة ،وماهي إلا دقائق قليلة حتى رن جرس الهاتف. إنها نوال
فتح كمال الخط مسرعا
بادرته بضحكتها الجميلة
وبدون مقدمات قالت :عزيزي كمال غدا صباحا ستتصدر رسالتك غلاف الجريدة لقد قرأتها وسأرسلها للتو إلى مدير النشر فهي لا تحتاج إلى تنقيح . ثم أردفت بصوت خافت مكلوم :عزيزي كمال كلنا نحمل في جيوب معاطفنا القديمة رسائل مهما عاث بها الزمن فقلوبنا تحفظها عن ظهر قلب .فجأة علا صوتها بضحكة مشاكسة وقالت: في المرة القادمة اكتب للقراء عن الحصان الذي كاد يودي بحياتك عندما صرخت في وجهه. إلى اللقاء أيها الفارس الأديب.
أغلق كمال الهاتف وصورة ابنة المدير تراقص مآقيه ، ثم حلق بفكره نحو الرسائل الكثيرة القابعة بجيوب المعاطف وخباياها وأخذ يردد :ستظلين طفلة مشاغبة يا نوال مهما كبرت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.