الذاكرة الجمعية بقلم : الكاتبة إكرام العش اختصاصية نفسية
عندما نجلس مع الأهل وأصدقاء الدراسة والعمل .. نتذكر أحداثاً حصلت ولم نعاصرها، وإنما نتناقلها عبر الأجيال السابقة من خلال التاريخ، والكتابة، والسرد، والقص، وإحياء الذكرى، وغيرها من الوسائل. وهذا ما يسمي مفهوم (الذاكرة الجمعية) للشعوب والأمم، التي يتم تناقلها عبر الأجيال بدون وعي، أو لا شعوريا.
جميعنا نعرف أن “الذاكرة” ذات صفة فردية، فكل منا يتذكر أحداث حياته بصورة منفصلة، لأنها عملية عقلية ترتبط بالفرد المُتذكر، وحسب رأي عالم الاجتماع الفرنسي موريس هاليفاكس، فإن ذكرياتنا رغم أنها فردية، إلا أنها ذات طبيعة جماعية مشتركة، فهناك من ساعد على تغذيه ذكرياتنا وأحداثها من المحيطين بنا، فحن لسنا وحيدين، إنما نعيش ضمن منظومة اجتماعية واحدة، ومن هنا… يجب أن نميز بين نمطين من أنماط التذكر هما:
(1) التذكر الفردي: الذي نستذكر ونستعيد من خلاله أحداثا خاصة بنا.
(2) التذكر الجمعي: وهو استعادة أحداث وقعت ضمن الحيز العام ( المشترك)، بين أفراد المجتمع بحيث يتذكره الأفراد جميعاً، لتصبح هذه الأحداث جزءًا من تاريخيهم وماضيهم.
لذا، يمكن تعريف الذاكرة الجمعية بأنها: “الطريقة التي تتذكر بها الجماعات تاريخها، أي أننا نتعامل مع الذاكرة هنا لا بكونها فعلا فرديًا خاصُا ومستقلًا بنفسه، ولكن بكونها ظاهرةً مجتمعية، لأنها تحتاج لجماعة أو مجتمع يعمل على إنشاء تلك الذاكرة الجمعية”. والتي تتأثر بالبيئات المجتمعية، والعوامل السياسية المحيطة، والطرق التي يتم رسمها لسرد التاريخ ونقله وتغييره.
فالذكريات ليست تجربة متمركزة ومنحصرة داخل الفرد، بل إنها تنشأ داخل منظومة اجتماعية، تستند إلى تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي، يعمل بطرق عديدة ومتنوعة على صقل نسق جمعي تلعب دوراً كبيراً في قابلية الأفراد للتذكر والنسيان، (بمعني أن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة الأفراد مجتمعة)، وبالتالي، فإن الذاكرة الجمعية كظاهرة مجتمعية وثقافية، تشكل الهوية الثقافة للشعوب، والماضي والتاريخ لمجتمع ما.
لذلك، تختلف الشعوب في ذاكرتها الجمعية؛ فعلي سبيل المثال، الأجيال الفلسطينية تتذكر محطات تاريخية هامة في تاريخها، مثل نكبة سنه 1948، وحرب 1967، وحرب الكرامة 1968، وغيرها من الحروب التي حصلت.
وقد يتذكر اليابانيون أحداث القنبلة الذرية على هيروشيما، وآخرون يتذكرون الحرب العالمية الأولي والثانية التي عاش زمنها آباءُهم وأجدادهم، وغيرهم يتذكرون -الثلجة الكبرى- أو- الكساد العالمي _ التي أثرت عليهم، أو مواسم الجفاف، وغيرها من الأحداث.
فكل أمة، أو جماعة، أو شعب يتذكر الأحداث التي مر بها، حتى ولو لم يعش أحداثها، وتكون علامات فارقة في تاريخه، لأنها أثرت عليهم بطريقة أو بأخرى.
ويأتي السؤال الهام… هل تُبنى الذاكرة الجمعية للشعوب؟ وكيف؟
الجواب نعم، تبنى الذاكرة الجمعية للشعوب، بنفس الطريقة التي يمكن طمس وتغيير وإلغاء تواريخ الشعوب، من خلال تعبئة الذاكرة بأحداث وهمية مصطنعة، تشق طريقها إلى وعي الأفراد، بينما تستطيع أيضا أن تُسكت أحداثا أخرى وتضمها إلى قائمة النسيان بنفس الطريقة.
ولطالما تم التلاعب بالذاكرة والتاريخ، لتحقيق أهداف في إنشاء دول وإعطائها الشرعية، ولطالما استخدمت الأساطير الدينية، كوسيلة تعبوية تحفز الذاكرة المتعلقة بالمكان والرموز لتحقيق الأهداف.
ولعل وسائل الإعلام و”الميديا” تعتبر الوسيلة الأولي حاليا في السيطرة على العقول، من خلال نشر البرامج والأفلام التي تعمل على تغيير الموروث الشعبي والفكري، وترويج القصص والكتب، والتلاعب بالمناهج المدرسية التي تعمل على تغيير أحداث التاريخ وفقا لبعض السياسات، لتنفيذ أهداف معينة.
بالإضافة إلى الاهتمام بالمتاحف، وتغيير ما بداخلها للتأثير على الذكريات الوطنية والموروثات الشعبية والفنية ، وكذلك بتصريحات السياسيين ورجال الدولة والفاعلين فيها، وعمليات انتقاء الأفكار، والتلاعب باختلاق الأحداث التي يريدون التركيز عليها، لبناء ذاكرة جمعية جديدة، وإلغاء ما لا يريدون من ذاكرة الشعوب الأصلية، وبالتالي فإن الأفراد بهذه الطريقة ينسون وبشكلٍ جماعي، تماما كما يتذكرون الأحداث والماضي بشكلٍ جماعي
الحديث في الذاكرة الجمعية يطول، وسيبقى دوما يخضع لتعقيدات عديدة، وطالما كانت الشعوب ضحايا الطامعين، ويُكتب تاريخها بيد غيرها من أصحاب القوى المسيطرة.
وسنكون ضحايا لتذكر بعض الأحداث، ونسيان بعضها دون إرادةٍ منا، لعدم قدرتنا بالتحكم فيها. ولعل الأمثلة في تاريخنا المعاصر وحولنا كثيرة، فقط علينا التفكير فيما يجرى بالقرب منا، لنفهم مصطلح الذاكرة الجمعية للشعوب وكيف يتم طمسها وتغيرها، وكيف يمكن التصدي لعمليات التأثير على الشعوب .