” الواقع المر ” قصة قصيرة: للكاتبة المغربية فريدة عدنان

براقة كانت نجوم تلك الليلة الصيفية، وكان هو يجلس وحده في فناء الدار مفترشا الأرض وعيناه تجوبان السماء وفكره يمتطي صهوة الخيال الجامح.
رأى وجهها منيرا كالبدر بين النجوم، وقد رسمت على شفتيها ابتسامة ساحرة. شوقه الكبير لرؤيتها جعله يخالها في كل الزوايا، فمنذ أن اجتاحت العالم لعنة الجائحة وهو يعيش منزويا في تلك البلدة الريفية النائية، فالقدر حكم عليهما بالبعد.
قرارات مفاجئة تصدر بين الفينة والأخرى، هلع ورعب من أخذ جرعات اللقاح ضد الوباء يسري في النفوس. كان العالم كله يغوص في بحر من الفوضى المنظمة، وكان هو مصرا على عدم أخذ اللقاح فالأمر كما يذاع اختياري وهو اختار الحياة الطبيعية بعيدا عن التعقيدات المحيطة به.
لكن قراره ذاك كلفه الكثير في الشهور المنصرمة، فالعالم برمته اعتمد فجأة جوازا لايمنح لغير الملقحين، وهذا الأمر جعله يتجرع الويلات فقد منع من السفر ومن ارتياد كل مجالات الحياة.
ظل ينظر الى النجوم البعيدة وفكره مشتت يحاول استيعاب ما يجري حوله، صرخ فجأة: كيف يقولون أن أخذ اللقاح اختياري ويصدر قرار بإلزامية الجواز… ماهذا الهراء وما هذه اللعنة التي عمت العالم! ؟
أخذ نفسا عميقا وأمعن النظر في الأفق المظلم فعاودت صورتها تتلألأ بين النجوم، كان قلبه منفطرا من الشوق إلبها. لقد كانت تملأ حياته الرتيبة بضحكاتها وشغبها. أحس برغبة جامحة في الحديث إليها فهي بماثبة الهواء له تمتم لنفسه:” اليوم الواحد في هاته الأعالي يقاس بالسنوات…”
أخذ الهاتف وقال ربما هاته المرة سيكون حظي أوفر ويعلق معي الخط فالشبكة تكاد تنعدم في هاته الجبال العالية. سمع صوتها ينبعث وكأنه نسيم جادت به الطبيعة في تلك الليالي الصيفية الخانقة، أخيرا ابتسم لي القدر وسمعت صوتك الحاني صغيرتي، أشعر كأني بمنفى وجسمي يسري به سم قاتل ووجودك وحده بقربي هو الترياق. لكن لدي مفاجأة جميلة لك…
من شدة فرحها ظلت تستحلفه أن يعيد ما قاله على مسامعها، وتدندن وكأنها لازالت طفلة في الخامسة من عمرها بابا قادم.. بابا قادم.. لقد أخذ الجرعات ليتحرر من القيود المفروضة وألغى من قاموسه كل التفسيرات العقلانية، وفضل خوض غمار الحياة الجديدة مكرها…
فأحيانا كثيرة نتجرع المر من أجل الأسمى، وحبه لها كان أسمى وأغلى من الحياة نفسها والحقيقة الوحيدة في ذلك العالم الكبير المزيف الذي يعيشان فيه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.