في بلاط أمير الأدب العربي الناقد والشاعر الدكتور: مصطفى بلعربي سلوي بقلم الروائي الأستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي.

(أستاذي الجليل فضيلة الدكتور مصطفى سلوي، أستأذنك في ولوج بلاطك الأدبي لأجني من حدائقكم اليانعة ورودا وقطافا وأشبع فكري من درر بيانكم وجميل معانيكم، فشدني ما قرأت لكم فكتبت قراءة عاشقة في شعركم الذي استهواني كثيرا، ولا أدعي أنني ناقد وإنما أنا عاشق للحرف الجميل ليس إلا)

“وأستعين بالله وأكتب”

ليس بالأمر السهل الهين أن تغوص في أعماق قصيدة وتصبر أغوارها، اللهم إلا إذا كنت شاعرا، تقرض الشعر ومتذوقا له، بالإضافة إلى رحابة الصدر وسعة الخاطر، خاصة إذا كنت أمام شاعر يغزل الحروف بمهارة، كمن يغزل الحرير لينسج منه لباسا من استبرق، وحين قرأت لشاعر ديباج بيانه، وسندس معانيه، وروعة قصيدته، استعنت بالله، وتزودت بآليات الغوص، أملا أن أجد ما أبحث عنه، مما يمتع الروح.

فالشاعر خبر الحياة وعشق الجمال في كماله ولم يحد عنه، فكتب عنه وله بعفة وطهر وجمالية، وبطريقة احترافية، متمكنا من أدواته ومن عذوبة ألفاظه ، فيجعل القارئ مشدودا إليه، ويجبره على القراءة وإعادتها مرات ثم مرات، مترنما بأنغام القصيدة.

فمن يكون هذا الشاعر؟ إنه ملك البيان، الأديب الأريب الألمعي، الناقد المتمرس والدكتور الجامعي، والأستاذ المحاضر، تعرفه المدرجات والمحافل العلمية، طلابه كثيرون، ومريدوه ومحبوه كثيرون جدا، أشرف على عشرات الرسائل والبحوث، وألف الكتب والمصنفات في أجناس أدبية متعددة.

إنه الخلوق الطيب المتواضع، الأديب والشاعر مصطفى بلعربي سلوي، الذي نحاول في قراءتنا لأشعاره أن نقترب منه أكثر ونسافر مع قافلة إبداعه الجميل،

تتخذ القصائد التي بين أيدينا، تصويرا شعريا محكما دقيقا، لا يترك للخطأ سبيلا، سواء في شعر التفعيلة أو في الزجل، وحتى هذا الأخير يختلف عن المتعارف عليه، وكأنه مقاطع معزوفة على رباب ؛ يعتمد على النسق الشعري والجَرْسِ الموسيقي.

فهي ثروة لغوية محضة، مشبعة بصور شعرية بلاغية، إذ أنها تعلو على ما تعارف عليه الناس وعلى لغة التخاطب العادي، وهذه الخاصية ينفرد بها الدكتور مصطفى سلوي، فيمد القارئ بنوع جديد من الشعر، يسافر به عبر حقب زمنية بعيدة ؛ من الشعر الجاهلي – الذي أحبذ أن أسميه شعر ما قبل الإسلام – إلى الشعر العباسي إلى الشعر الأندلسي إلى الشعر الحديث.

نلج بلاط مملكة الشعر في ضيافة سلطان القصيدة، التي شدتنا إليها فتفاعلنا معها بكثير من الحب، يقول الشاعر في قصيدة (مها العيون):

وَالْمَها مِنْ سَوادِ عَيْنَيْك
أَقْسَمَتْ أَلّا تَكونَ لَها
مِنْ غَيْرِ عَيْنَيْكِ عُيونُ
رَأَيْتُ الْخَلْقَ فيكِ عاشِقاً وَمَعْشوقاً،
وَقِطْعَةٌ مِنْ بِلادي عَزيزَةٌ
بِها الغانِياتُ تَغَنَّتْ،
وَبِحَرْفِها الْأَسْماءُ تَسَمَّتْ،
وَما في الدُّنا عُيونٌ ساحِراتٌ
تُرَجّى لِعَيْنَيْكِ عُيونُ.

هذا المقطع الشعري الباذخ، تتجلى فيه الصور الفنية الشعرية الراقية، التي تصف جمال وروعة ما حبا الله به الوجه الحسن، الذي تزينه العين بِحَوَرِهَا، وقد يذوب الشاعر في سوادها الأخاذ فيصفها بعيون المها، والتي تغنى بها الشعراء قديما وحديثا، واعتبروها سمة الجمال، ولا يحتمل الشاعر جاذبيتها وسحرها فترهبه فيستجديها رفقا به، يقول في المقطع الثاني:

حَنانَيْكِ سَيِّدَتي،
لَحْظُكِ سَيْفٌ قاطِعٌ في غِمْدِهِ،
فَكَيْفَ إِنْ
رَّدَ وَانْبَرى؛
مِنْ تَحْتِ سَوادِ الأهْدابِ،
يا وَيْلي كَيْفَ..
كَيْفَ أَصير
حنانيك

ونقف قليلا عند مصطلح (حنانيك)، حتى نعرف كيف يختار الشاعر ألفاظه بدقة وعناية، فـ (حنانيك) كما جاء في المعجم: تعبير لغوي يقال له “الاستعطاف الرقيق”، عرفه العرب قديما واستعملوه في شعرهم ونثرهم. قال طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي المعروف يستعطف أحدهم:

“أبا منذر أفنيتَ فاستَبْقِ بعضنا .. حنانيك بعض الشر أهون من بعض”

أي تحنن علينا واعطف حنانًا بعد حنان”.وذكر علماء اللغة أن: “حنانيك”: مصدر سماعي جاء بصيغة المثنى لفظًا لا معنى، ولكنه أريد به التكثير مثل: لبيك، وسعديك، ودواليك.. (انظر كبسولات ادبية )

ويصبح الشاعر أسيرا أمام قوة اللوحة التي أبدعها الخالق ووهبها مخلوقه التي هي الأنثى بجمالها وفتنتها ورقتها فيكبر السؤال في داخله، لتخرج مجموعة أسئلة حيرى، كما يطرحه في المقطع الثالث:

حَنانَيْكِ سَيِّدَتي،
ماذا يكونُ الْحُسْنُ في سوادِ ضُفْرَتَيْكِ،
وَماذا يَكونُ تَضَوُّعُ الطّيبِ
مِسْكاً مِنْ تَحْتِ أَخْدَعَيْكِ؟
هذا الطَّرْفُ الْكَحيلُ،
والْخِصْرُ النَّحيلُ،
وَالرِّدْفُ الثَّقيلُ؛
وَهذا الحاجِبُ نونُ هِلالٍ؛
كَيْفَ سَطَّرَهُ الخالِقُ الْجَليلُ؟
وَكَيْفَ أنا أَمُوتُ وَأَحْيا
كَمَداً وَغَيْرَةً
مِنْ هذا الْخَزِّ الَّذي تَطْوينَ مُسَرْبَلاً
عَلى هذا الْجَسَدِ الْمَيّاسِ
صَمَّمَ فِتْنَةَ إِيقاعِهِ
الْخَليلُ

ونجد الشاعر في هذا الشطر وكأننا نقف أمام امرئ القيس في معلقته المشهورة إذ يقول في أحد أبياتها:

إذا قامتا تضوّع المسك منهما
نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل
فاضت دموع العين مني صبابة …
على النحر حتى بلّ دمعي محملي

ويصف جميل بثينة سحر العيون وجمالها فيقول :

لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة
كأن أباها الضبي أو أمها مها

ويصبح المتيم ضحية العيون الجميلة قتيلا تذبحه أهدابها؛ يقول جرير:

إن العيون التي في طرفها حور قتلتنا ثم لم يحن قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا

يوظف الشاعر الأساليب التي تشمل اللغة والإيقاع والصور الشعرية، مستخدما كل أشكالها، من استعارة وتشبيه وكناية ومجاز مرسل وانزياح ورمز وأسطورة،”مراعيا في ذلك الوظائف الدلالية الجمالية الشخصية والتعبيرية ”
وسنأتي على ذكرها باقتضاب تاركين تعميق البحث فيها للباحث المهتم الدارس لغزارتها بقصائد الشاعر.

إن للمرأة مكانة خاصة في حياة الدكتور مصطفى سلوي، يبثها حبه ولواعجه فهي مفتاح أسراره ويعتبر الشاعر نفسه لسان حالها وناطقا رسميا عنها، فهي إما أمه أو أخته أو ابنته أو صاحبته أو”حبيبته”؛ يوشحها بوشاح القصيدة، ويعطرها بمسك بيانه، ويدثرها برداء حبه وعشقه العفيف، يقول في قصيدته الرائعة الطويلة بعنوان، قبلة واحدة فقط:

قُبْلَةٌ واحِدَةٌ فَقَط؛
على شِفاهِ الْعِشْقِ الْمَرْفوع
قَدْ نَمَتْ
وَفي قَلْبِيَ الْمَتْبولِ أَنْبَتَتْ،
وَعْداً جَميلاً
بِالْبَقاءِ على الذِّكْرى؛
حينَها أَقْسَمْتُ بِرَبِّ موسى وَعيسى،
وَرَبِّ راكِبِ النّاقَةِ الْأَسْمى،
أَنْ لا امرَأَة
انَتْ لَدَيَّ الْأَشْهى؛
سِواكِ
يا مَنْ قُبْلَتُكِ أَيْنَعَتِ الْمَنَّ والسَّلْوى،
وَأَوْدَعَتْ بِفُؤادِيَ
سُبْحَةً خَتْمُها النَّجْوى
قُبْلَةٌ واحِدَةٌ فَقَطْ؛
على شِفاهِ الْعِشْقِ الْمَقْطوعِ
أَسْكَرَتْ
رَجُلاً كانَ بِالْأَمْسِ لا تُسْكِرُهُ الْقُبَلْ
لا تَسْحَرُهُ الْمُقَلْ..
ولا يُؤْمِنُ بِما تُخَبِّئُهُ الْبُقَلْ:

(يا فالْ يا فَلْفَالْ،
يا لَمْقَطَّعْ سَبْعْ قْفالْ،
جيبْ لي اخْبارْ حبيبي،
كانْ فَالسَّهْلْ مْخَبّي،
وَلّا في رْيوس اجْبالْ)
خَبَرَ فُنونَ الْعِشْقِ،
وَنَطَقَ بِأَعْذَبِ النُّطْقِ،
وَحَبا الشِّعْرُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ؛
مِنْ أَقْصى الْغَرْبِ إِلى أَقْصى الشَّرْقِ..
قُبْلَةٌ واحِدَةٌ فَقَط؛
صَيَّرَتْهُ عَبْداً مَمْلوكاً،

ومما يميز الشاعر عن غيره ممن تناولوا موضوع القبلة في القصيدة، خاصتين الأولى:دقة المعنى والوقوف على الألفاظ ذات الدلالة العميقة، والخاصية الثانية:إشباع القصيدة من الصور الجمالية بطريقة مختلفة، مضيفا إلى فصيح بيانه الشعر العامي مستشهدا به:

(يا فلان يا فلفال
يا المقطع سبع قفال
جيب لي اخبار احبيبي
كان فالسهل مخبي
والا فريوس اجبال)
ويضيف قائلا
انا ما سألتك الرحيلا
ولا كنت يوما لنزار خليلا
لكن ما تعتقين
بين لَثّاتِ ثغرك
أرداني عند قدميك
قتيلا
(حب لملوك جاني هدية
جاني مذبال فوراقو
حبيبي كتب لي برية
نْموتْ ولا فراقو )

ويلتقي الشاعر في هذا الموضوع مع كثير من الشعراء، ونسوق على سبيل المثال بعض المقاطع لكل من يزيد بن معاوية، وامرئ القيس، وأبي نواس، وجميل بثينة. فجاء في قول يزيد بن معاوية

أغار على أعطافها من ثيابها إذا ألبستها فوق جسم منعم
وأحسد أقداحا تقبل ثغرها إذا أوضعتها موضع اللثم في الفم
فو الله لولا الله والخوف والرجا لعانقتها بين الحطيم وزمزم

إن الذي يهمنا من هذا المقطع هو قوله:”وأحسد أقداحا تقبل ثغرها” وإن كنا من غير مؤيدي هذه الجرأة الزائدة في البيت الأخير. ومن أجمل ما ذكره امرؤ القيس بيانا قوله:

فقبلتها تسعا وتسعين قبلة وواحدة أخرى وكنت على عجل
وعانقتها حتى تقطع عقدها وحتى فصوص الطوق منها انفصل

كأن لآلئ الطوق لما تناثرت ضياء مصابيح تطايرت من شعل
إن الأمثلة كثيرة ومتنوعة في شعر العرب القديم ونختم بما جاء في قول “ابو نواس”

سألتها قبلة ففزت بها ….بعد امتناع وشدة التعب
فقلت بالله يا معذبتي.. جودي بأخرى أقضي بها اربي
فابتسمت ثم أرسلت مثلا ..يعرفه العجم ليس بالكذب
لا تعطين الصبي واحدة ..يطلب أخرى بأعنف الطلب

وهذا الموضوع أثاره الكثير ممن نعاصرهم أيضا ومنهم مما وقفت على شعرهم بالصدفة على صفحات مواقع التواصل الالكتروني ، ولم يسبق لي أن قرأت لهم أشعارا كثيرة:أحلام مستغانمي،ودنيا الجلبي، وكريم جخيور .

تقول أحلام مستغانمي في قصيدتها المعنونة بـ”شفتان على شفا قبلة”:

شفتان تُبقيانك
لا شفاعة

‎لا شفاء لِمَن لثمتا
‎لا مهرب

لا وجهة عداهما ولا قبلة
‎مجرد شفتين أطبقتا على عمرك

إن ما ذكرته الشاعرة بإسهاب، لخصه الشاعر مصطفى سلوي بعنوان القصيدة، ولو قرأناه لوحده وجدناه يختزل ومضة،أو ما يصطلح عليه بالقصة القصيرة جدا، والمتمثلة في”قبلة واحدة فقط”، وفي التقارب التناصي تقول دنيا الجلبي :

‎قبلة من شفتيك
‎تنسيني الدنيا وما فيها
‎تطير بي فوق سطح العالم
‎تغوص بي
‎كالقمر في الليل
‎وتدفئني

‎كرمل البحر في الصيفِ
‎قبلة من شفتيك
‎أنمو بها
‎كالشقائق الحمراء
‎كالنرجس فوق أعالي الجبل
‎وكما ينمو
‎فوق السفوح …. التمر والصنوبر
‎قبلة من شفتيك
‎تذيبني
‎كذوبان الفراشة في النور
‎ترعشني
‎تأخذني‎ إلى قمة الحب

يكون للقبلة طعم متكافئ عند الجنسين معا، قد يختلفان في الإحساس، لكنهما يتفقان على رسم معالمها وواقعها المحسوس، ولا أحد منهما يتنكر لتأثيرها.يقول الشاعر الدكتور مصطفى سلوي:

قبلة واحدة فقط
على شفاه العشق المقطوع
أسكرت
رجلا كان بالأمس لا تسكره القبل
لا تسحره المقل
ولا يؤمن بما تخبئه البقل

وليست الشاعرة أحلام مستغانمي أو دنيا الجلبي أوالشاعر مصطفى سلوي ممن يرتشف من القبلة خمرا فتسكره وينتشي في عالمها الجميل، فنجد الشاعر العراقي كريم جخيور يرتشهفا عسلا سائغا لشرابه واصفا لها:

‎أنت سيدة الحفل
‎يرقص طيفك طافحا بالمسرة
‎والرغبة الصاعقة
‎يا لهذا التثني الفريد
‎يستفز القلوب
‎كوقع الضياء على البقعة الداكنة
‎عسلا تفيض الشفاه
‎من قبلات تسيل

أجزم كثير ممن عرفت من الأدباء في المشرق والمغرب، أن الشاعر الكبير نزار قباني لا يمكن أن يتكرر وشعره لا يتجدد، فلم أوافقهم الرأي بتفنيدي لطرحي. فعلا قد لا يتجدد في مكانه بدمشق ولكن شاعرا بحجمه يتواجد ببلاد المغرب وبمدينة وجدة،هو الأديب الكبير والشاعر الموسوعي الدكتور مصطفى سلوي، مع الإشارة إلى أنني أجده من معجبيه،إن لم أقل من المتأثرين به، ونلمس ذلك في التقارب الشعري بين الشاعرين الكبيرين، ولنقرأ لنزار هذه الرائعة العذبة المغرية لوصفه للقبلة بعنوان (قبلتني)

حلمت بأن حبيبتي قد..قبلتني
وإن شفتاها كالشمع ذوبتني
وحلمت أنها قد غازلت
عيني..وبحرير شعرها قد ربطتني
وتقدمت نحوي بخطوات
وبممشاها قد
أسرتني
وقد حاولت أن أرفض حبها
ولكنها
كبلتني
بقيود أقدر أن أفكها
ولكني أحببت سجني
فإن كنت قتيل رمشها
وحبيس لمستها
فهل تراني أرفض لو
هشمتني
أو أنها كسرت أضلعي
حين احتضنتني
فلا..وألف لا..لا أقاوم
أنا المسكين
عينا ذئبة
التهمت مشاعري
والتهمتني
ولن أقول حينها
إلا تعالي إلى أحضاني
يا قادرة
يا من قتلتني
وأحيتني

إن الأديب الشاعر الدكتور مصطفى سلوي مسكون بهاجس الكتابة والقراءة، فهو كنحلة تنتقل من زهرة إلى أخرى، لتمدنا من رحيقها عسلا سائغا لشاربه، حلو مذاقه مختلف طعمه ولونه، ـ وقد ساعده في ذلك ثراء معرفته باللغة الفرنسية وتبحره في الآداب الغربية وكأنه موليير زمانه وقد أسر إلي أحد الأصدقاء أن الدكتور مصطفى سلوي ترجم في فترة دراسته العليا بفرنسا ديوان أبو الطيب المتنبي أو بعضا مهما منه إلى اللغة الفرنسية ـ ليرسخ لطلابه وعشاقه ذوقا أدبيا رفيعا، ونجد هذا التنوع في جل كتاباته، في النقد والشعر والفكر وفي الزجل، هذا الجنس الأدبي الشعبي الذي أبلى فيه الدكتور سلوي البلاء الحسن، وكيف لا وهو من جالس شيوخه ورواده، استمع إليهم وارتشف من معينهم، ونقب في موروثة، وحث طلبته على التنقيب والبحث في أصوله، وشجع على نظمه، فالزجل لسان حال ماضينا وحاضرنا وإرث الآباء والأجداد، ويذكرنا بتاريخ الحضارة الأندلسية العريقة، زمن أبو بكر قزمان واضع أسسه، وإبراهيم بن سهل الاشبيلي، وأبو عبد الله اللوشي، والحسن بن أبي نصر الدباغ…

واعتبارا لذلك، آثرت قبل أن أنهي رحلتي من هذا السفر الممتع،أن أتناول قصيدة رائعة تحت عنوان خصال الوجديات لشاعرنا سلوي ونلج معه محراب الزجل الراقي.

خصال الوجديات أَصَّلَتْ إبداعا جميلا بلهجة أهل وجدة وكأنها معلقة شعرية أو شريط وثائقي عن المرأة الوجدية على الخصوص والمرأة المغربية على العموم.اقتربَ منها أكثر نشأ إلى جانبها رافق مسارها طفلا ويافعا وشابا ورجلا، تعلم منها وعلمها، سكنها وسكنته، عشق سجاياها وجمالها فكتب عنها ولها. استهل قصيدته بذكر مناقب أهل وجدة قائلا:

بلاد وجدة ولافة
بلاد الحشمة والكرمة والنيف
شيمتهم الصدق والعز ولوفا
والخير ذافق فالمشتا والصيف
وزيد القدام ومرحبا بالضيف
رجالها شجعان ماشي خوافة
لعابين المطرك حتى حد السيف
الاستعمار كان عندهم غير خرافة
طواو ايامو بين بركان والريف
وبعد هذا الاستهلال، أتى على ذكر نخوة وبسالة وكرم ومروءة أهل وجدة وآل الريف، وما جبلوا عليه من الصدق والوفاء والعفة والوقار، يرسم لوحة جميلة عن المرأة في سلوكها ومحاسنها فهي الولاّفة والرزينة والزوينة، فيها اللطافة والعفة والطهر، المحضية مولاة الهمة والشان والكمنة والصواب.وينفي عنها كل شائنة، مثل:

“ماشي نمامة ولا مهرامة ولا معفونة..”
ونقرا قوله:

الزين تما كمالو حسن ولطافة
الحجبان هلال الفم ظريف
لعيون كحول رموشهم رفرافة
والسالف طويل لوانو تلافة
الصاك قالب يشوفو لكفيف
تمشط ف دارها ما تعرف حفافة
تعكر ومن لكحل مَرْوَدْ خفيف
قوامها جميل ريشة شفافة
ظبية صورها الخالق اللطيف
هاذو خصال الوجديات الحب واللطاف
سيرتهم شهد من وجدة للريف
ويختم هذه القصيدة الرائعة بالدعاء للمرأة الوجدية العظيمة وللمرأة الريفية الكريمة بقوله:

يا ربي تحفظهم من اللسان والشفا
وف الجنة مقامهم فالظل لوريف
وتحظيني معاهم بلعربي مصطفى
ناظم ذا لقصيدة العبد الضعيف

وصفوة القول أنني استمتعت بما قرأت وانتشت نفسي طربا واستفدت من بديع ما نثره علينا فضيلته والمجال لا يتسع لذكر كل ما جاء في القصيدتين المشار إليهما أعلاه. ونترك للمتذوقين والدارسين النظر اليه
لهذا أستودع ضيفي الكبير سلطان هذا اللقاء وأستسمحه على ولوجي بلاطه الأدبي واقتحام أبواب حديقته اليانعة القطوف.
فأرجو أن تتقبل مني أخي مصطفى هذه القراءة العاشقة، فمنذ أكثر من شهر وأنا أتجول في بستان أدبكم وفكركم أتنسم عبير حرفكم الجميل ، فعز علي أن أمر بجدوله من غير أن أغرف منه رشفة أبل بها ريقي في زمن نضب حبر الكتابة الجميلة، فغرست بعض وريقاتي على جنبات شجرة علمكم ، آملا أن تجد مكانا خصبا فتنمو وردة تعطر محبتي لكم..

وألتقي إن شاء الله معكم في قراءة عاشقة أخرى تكون أدق وأعمق..

 

بقلم الأديب: مولاي الحسن بنسيدي علي

الناظور بتاريخ 24 يناير 2016

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.