الباحثة سناء سقي تكتب: عز الدين الماعزي وقصص من حجم آخر في ” هكذا تكلموا “

سناء سقي ، باحثة بماستر الأنساق السردية والبصرية : المكونات والوظائف./

تحضر مجموعة القصص القصيرة ” هكذا تكلموا ” للكاتب المغربي عزالدين الماعزي بين باقي مجاميعه القصصية  القصيرة جدا بشكل سردي بارز ومتفرد لغة ودلالة ..
صدرت في طبعتها الأولى سنة 2011م عن دار القرويين بالدار البيضاء، تضم إثنين وعشرين قصة ، أبطالها شخصيات واقعية عايشها المبدع عن قرب، وفجّرت عنده عبوة السرد المحرق المتسارع لغة وصورا وقلقا..
يقول صاحب المجموعة في تقديمه ل ” هكذا تكلموا ” كلما كتبت عن شخص كتبت عن نفسي، أنا الذي أنكتب بالجراح والإنجراح…1″
الحلّة الخارجية للمجموعة القصصية ” هكذا تكلموا ”
يتميز الشكل الخارجي ل ” هكذا تكلموا ” بأرضية زرقاء فاتحة لون الغلاف على رحابة شاسعة للتأمل والتأويل .. توسطتها لوحة داخل إطار أبيض مربع ،تتجزأ إلى ستة  عشر خانة مربعة، كل خانة تجسد لوحة مستقلة لبورتريه تجريدي تختلف ملامحه عن ملامح بورتريه لوحة أخرى، وإن كانت تتجانس فيما بينها داخل الإطار العام للوحة التي أبدع الفنان التشكيلي عبدالكريم الأزهر في تأثيثها قلبا وقالبا.
يتضح جليا لمن قرأ ” هكذا تكلموا ” حين ينظر إلى لوحة الغلاف التناسق والاتساق اللذان يتشكلان داخليا وخارجيا مع شخصيات المجموعة القصصية، وما يميز بورتريهات اللوحة هو بروزها بأعين شاخصة ملفت لكل عين سيميائية تلتقط ما هو أيقوني من خارج وداخل النص / الغلاف ، في مقابل غياب شبه تام للأفواه لدى هذه البورتريهات التي تعرضها لوحة الغلاف، وهذا ما يثير الدهشة حقا لدى المتلقي هذا (التناقض )المجسد أو المتجسد في غياب أو تغييب آلية/ الفم كأداة  للتعبير / للقول/ للكلام ، وبين البنية السطحية والعميقة لعتبة المجموعة ” هكذا تكلموا ” .
كما أن ملامح هذه البورتريهات (مطموسة ) نوعا ما، فهي غير واضحة تماما، وهنا نقف لربط هذه الخاصية التشكيلية بملامح الشخصيات التي خلقها الماعزي داخل قصصه القصيرة فتتجلى الذائقة التشكيلية للكاتب وبراعته في نحت وتصوير شخصياته داخل قالب أيقوني ورمزي غني بالإيحاءات ومتعدد الدلالات..
ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال الألوان التي اقتناها الفنان التشكيلي الأزهر في اشتغاله على لوحة الغلاف، حيث توافقت  ببراعة مع مرجعية وخلفية السجل المعرفي للكاتب الذي يعتمد بشكل كبير على تشكيل وفضاء بلدته في تأثيث قصصه !! فحضور اللون الترابي أو الأصفر المائل إلى الحمرة الداكنة والرمادي بتدرجاته إلى الأسود…كلها ألوان تحيل على التربة في خصوبتها / قساوتها ، في تغيرها حسب الأزمنة والفصول، كما تتغير النفوس وتنتقل في مدارجها من حال إلى حال داخل ناعورة (اليومي) حسب عزالدين الماعزي قناص اللحظات المنفلتة بامتياز.
سيميوطيقا العنوان ” هكذا تكلموا ”
ركز الدرس السيميائي انطلاقا من اهتمامه بكل الأنساق الدالة على أهمية العنوان كعنصر مواز للنص، إلى جانب الأيقونات على وجه الغلاف أو باقي العناصر كالترقيم والبياضات ..ولعل هوك Leo Hoek    ممن تميزوا بدراسة العنوان من خلال كتابه ” أثر العنوان ” La marque du titre 2)
، وقد حاول من خلال هذه الدراسة بناء نموذج لتحليل العنوان يعتمد على وصف الثوابت المستقرة للعنوان.
ويعتبره ” عنصرا مستقلا على الرغم من تبعيته 3″، ويبرز هذا الاستقلال من خلال العناصر الشكلية والدلالية.
” هكذا تكلموا ”

–        يتخذ العنوان ” هكذا تكلموا ” شكل وحدة معجمية  تبدو أيقونا يتكون من حروف تيبوغرافية غليظة على المستوى الأيقوني  ظاهرة في أعلى صفحة غلاف المجموعة القصصية ،وهذا ما يضفي عليه بعدا تداوليا يرتبط بإثارة انتباه القارئ وجذبه نحو خبايا قصص المجموعة.

–        يشكل العنوان نواة أساسية تتناسل منها كل الدلالات الجزئية داخل الخطاب .

–         العنوان كوحدة معجمية لها نواة مقوماتية ، ” هكذا تكلموا” : —>/ +أناس/، /+ عاقلون/،         /+ أحياء/، /+ ناطقون/، / + مجموعة أفراد/، /+ غيرمعدود/،/- فرد واحد/…
تحيل هذه النواة المقوماتية إلى بعض سمات هذه المجموعة من الأفراد التي يرمز إليها الكاتب في عنوان مجموعته، إلا أن هويتهم تظل مجهولة غير محددة وغير مخصصة في عتبة النص.
كما تحيل هذه النواة المقوماتية إلى أن هؤلاء الأفراد يقومون بمهمة معينة (الكلام/القول)
–        ويكتسي العنوان أهمية ترتبط بالجانب الطوبولوجي والموقع الذي يشغله في علاقته باللوحة على صفحة الغلاف التي تمثل أول عنصر يدخل المتلقي معه في علاقة مباشرة.
–        يمثل العنوان دليلا إخباريا وإقناعيا ودلاليا يحاول إقناع القارئ منذ أول وهلة بخطاب المجموعة القصصية.
–        عناوين النصوص القصصية  داخل المجموعة تتميز بتراكيبها الإسمية والفعلية ،(غيمة على رأس هشام)، (حميد الصعلوك الذي فجر تراجيم السحرة)، (من آخر أيام الإمبراطور اللوكس)، (الماجوج الذي يربك المعنى)…
لغة ” هكذا تكلموا ”
يقول د. عبدالقادر الفاسي الفهري :” فاللغة لغات، ودائما داخل نفس اللغة هناك لغات في داخل اللغة الواحدة 4″ ، وهذا ما يتجلى لقارئ قصص هذه المجموعة، إذ ينفتح الكاتب على أفق العالم بلغة كونية     ” ريزو “Réseau    كعنوان للقصة الأولى ص 7،” الجنرال”Le général  كمفردة داخل عتبة القصة الخامسة ص 21 ،”  اللوكس “Le luxe بعنوان القصة السابعة ص 29…
ويروم الماعزي إلى جانب الكتابة باللغة العربية الفصيحة،  اللغة العامية المرتبطة بالسياق التاريخي والجغرافي لفعل الكتابة ،بوعي منه أو دون وعي ، (عنداك حرفة بوك ليغلبوك) ص 8، ( ياك،،،أنا زوين… دكالي ..) ص 12، ( قووول أقريفة زين السمية عويد الند…الحويدق، مسمار الكيف، الكويط..!؟ انت اللي حاضي أو كاتشوف..مالاقي من يكتب بيك ؟  ) ص23، ( غادي نمشي البلاد كاينش ما نديو…صيفط شي حاجة الدار، را السوق يبان من هنا…الواليد على الله..) ص 38، ( والبغل خاصو تشامير…والدجاجة توحم…نوض ابدل ساعة بأخرى اولد ميمتي…ادي هذ الكانيش لسوق راه يتغالط مع الحواله..) ص39.
وبما أن لكل لغة وظيفة ، فهذا التنوع في اللغة يكسب المجموعة القصصية تعددا لغويا وتراكما وظيفيا يغنيها ولا يفقرها، بعيدا عن التكرار الحشوي ، بالإضافة إلى التهجين والباروديا والسخرية اللاذعة سواء باللغة الفصيحة أو العامية المحلية.
وهذا المزج بين اللغات أضفى على المجموعة هالة فنتستيقية تحيل على رمزية قوية وكتابة انتقادية لاذعة تعري سوءة الواقع …الملغوم.
قصة ” من آخر أيام الإمبراطور…اللوكس ” كأنموذج دال  على ” هكذا تكلموا ”
لتحديد موضوع سيميوطيقي يتطلب الأمر تحديد تمفصله إلى عبارة ومحتوى ، حيث تمثل العبارة التمظهر اللغوي، ويتشكل المحتوى من البنيات السيمائية السردية المحايثة والتي تتكون من خلال العلاقات القائمة بين المقومات والعمليات والفعل التركيبي التي تتحول إلى بنيات خطابية محققة.
ويعد العنوان ” من آخر أيام الامبراطور …اللوكس ” كعتبة للنص وبنية خطابية بالموازاة مع المقطع الاستهلالي أول فضاء نصي يربط السارد بالمسرود له، ويفتح باب الاتصال الأولي بالقول :
” أول مرة عرفت فيها اللوكس كما يطلق عليه في بيت خالي حين كانت تجمعنا جلسات الصيف…” ص29
بهذا المقطع نلفي تكثيفا لعناصر الخطاب، حيث يقدم المؤلف ساردا يقوم بوظيفة السرد (عرفتُ) يتميز بوجوده داخل الحكاية، وبالتالي فهو شخصية من الشخصيات الفاعلة داخل الخطاب، ولها اتصال بفضاء مكاني محدد هو بيت الخال ( في بيت خالي..) وهناك يتم الاتصال بالشخصية الرئيسة ( اللوكس )التي يراها السارد أنها شخصية هامة …يصعب القبض عليها وبالأحرى فهمها..
يتابع السارد سرده إلى أن يدخل في حوار مع الشخصية الرئيسة محور الحكاية ، والذي يضرب به المثل من خلال حكيه المتسارع اللامتناهي وفصاحته وعلمه الغزير ، والتناقض الذي تجسده حالته الاجتماعية المزرية وممارسته اليومية لرعي الغنم ..
أسماء الأماكن داخل القصة : Toponymes
تتباين أسماء الأماكن في قصة (اللوكس) بين أسماء واضحة تحمل دلالة مكانية وبين أخرى تحيل على مقومات سياقية في علاقتها بالزمن والخلفية السوسيو ثقافية لخطاب القصة ندرج منها ما يلي :
( بيت خالي ، البادية، رأس الدرب، القلعة، الخيرية، الشارع، ضاية الرحامنة، الساقية، الزوايا المحدودبة، المسجد، المنازل الصغيرة القصديرية، القرية، الجماعة القروية …)ص 29-32
تكون هذه الوحدات مسارا متسلسلا من وحدات معجمية متقاربة في إحالاتها المكانية وتؤدي إلى دلالة متشاكلة تحدد الإطار المكاني الذي يرتبط به خطاب القصة،  يتضح ذلك من خلال :
الساقية، المنازل الصغيرة القصديرية، القرية… من ثمة تؤشر  هذه الوحدات على :

الفضاء المكاني
فضاء دامج    /     فضاء مدموج
القرية      /   الساقية
/ المنازل الصغيرة القصديرية
وهنا لا يمكن حصر التحديد المكاني للقرية كإطار عام دامج، بل يتجاوز ذلك إلى الشحنة الدلالية  السوسيو ثقافية( للساقية ) بصفتها الرمزية داخل المحيط القروي والبيئة البدوية وفي ذلك إحالة مرجعية سياقية للإطار الجغرافي الذي ترتبط به جذور القصة (زاوية سيدي اسماعيل ).

تمنح هذه المقومات السياقية المتشاكلة إشارات دقيقة إلى أن المجتمع المصغر داخل قصة ( اللوكس) يمثل خلفية سوسيو ثقافية لخطاب القصة ، ويحقق بالتالي تجذيرا تاريخيا لخطاب المجموعة القصصية ” هكذا تكلموا “.
المزمنات   Chrononymes   داخل القصة
في حين تمكن الوحدات المعجمية الدالة على الزمن من التجذير الزماني  ، يقول غريماس :
” تمكن كل الوحدات التي تفيد معنى الزمن ، بإشارتها إلى ( مدة زمنية ) من تحديد الإطار الزمني وكذلك من تحديد خاصية التزمين   Temporisationالتي تحدث( أثر المعنى ) 5 ”
نجد ضمن المسار التصويري لقصة ( اللوكس ) وحدات تحيل على زمن معين منها :
( اول مرة عرفت فيها اللوكس)، (جلسات الصيف )، ( في الليلة ما قبل مرور موكب الملك)،                      ( يومها و في نهاية كل شهر )…
إن تواجد مثل هذه الوحدات المعجمية داخل القصة يحيل على مقوم سياقي زمني خاص يرتبط بشكل مباشر بحياة المؤلف وهو سنوات شبابه الأولى أوائل الثمانينيات تقريبا ، وله مقوم دلالي سياسي حيث تمت الإشارة إليه من خلال ( في الليلة ما قبل مرور موكب الملك )…
السرد بضمير المتكلم في قصة ” من آخر أيام الامبراطور …اللوكس ”
يقول د.عبدالمالك مرتاض : ” ولضمير المتكلم القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية والزمن جميعا، إذ كثيرا ما يستحيل السارد نفسه، في هذه الحال إلى شخصية كثيرا ما تكون مركزية 6 ”
إذا تم إسقاط هذا المعنى على الكتابة السردية للماعزي، نلفي روح المؤلف مندمجة بالقصة المسرودة من خلال توظيف ضمير المتكلم ( أول مرة عرفتُ فيها اللوكس…)، (كنتُ آنذاك…)، (أنسلُّ رفقة أبناء الخال..) ، ( نُدخن…)، فهو يغيب في الشخصية التي تسرد عمله، وهذا ما يخول للمتلقي منذ أول وهلة للقراءة الالتصاق بالعمل السردي.
إن استعمال هذا النوع من الضمائر هو إحالة على الذات بمرجعية جوانيّة، ومثل هذا الوضع السردي يحيل على رؤية سردية مصاحبة   حسب تودوروف  ؛ أي أن كل سر من أسرار الشريط السردي يظهر متصاحبا مع الأنا / السارد، وهذا ما يكسبه دور الممثل (الشخصية) عوض المؤلف.
ومن ثمة فحضور ضمير المتكلم في الخطاب السردي للقصة هو حضور دال على تماهي السارد في المسرود، وهنا إشارة جلية على رغبة السارد في كشف ما يضمره للمتلقي، كما يحيل على ارتباط المؤلف بكتاباته السير ذاتية ،لا سيما من خلال تجربته الشهيرة في كتابة الأجزاء الثلاثة ليوميات معلم في الجبل، ومعلوم أن هذا الشكل السردي الذاتي له صلة مباشرة بالواقع التاريخي الذي يستدعي السرد بصيغة ضمير المتكلم.
إن إقبال المؤلف على سرد  أحداث القصة بضمير المتكلم يوجه العملية السردية نحو الحاضر حينا أو الماضي القريب ( لم يسبق لي أن رأيته باكيا أو حزينا ، يقول في وجهك مقودا والحمد لله…) ص 30.
حضور ضمير الغائب
يعد استعمال ضمير الغائب أكثر شيوعا بين الضمائر السردية الثلاثة وأكثرها تداولا؛ حيث ييسر للسارد التواري خلف ( الهو) لتمرير كل ما يناسبه من آراء وأحكام وإيديولوجيات…
وحين نتحدث عن زمن السرد بحضور ضمير الغائب يبدو هذا الزمن في ظاهره مفصولا عن كاتب القصة، إلا أنه مجرد خدعة سردية، للتمويه أثناء التعامل مع الزمن الذي في الأصل هو زمن الكتابة. بالإضافة إلى أن هذا الضمير يحمي السارد من إثم  الكذب ويجعله مجرد راو يسرد الأحداث ( عسى أن يجد جرة مملوءة بالذهب واللويز…)
إن اختيار هذا الضمير يموقع كاتب القصة  في وضع سردي خلف الأحداث، فيكون خبيرا عليما بها بامتياز. (اللوكس ذو ثقافة متوسطة، آخر قسم درس به هو (البروفي) كانت أصابعه قد أخبرته أن مكانه البادية مكان قاس جدا على أمثاله لمتابعة دراسته..) ، ( ليس له إلا الساقية والصبار المتناثر هنا وهناك يبحث فيه عن ضالته، الوحيد الذي توقفت وراءه البقرة وهو يأكل الكرموس)،(إنه يثير الجدل في كل الأمكنة التي يشتغل فيها وهو عملة نادرة في البحث والجد) ص 29-30 .
السارد وضمير المخاطب
(وافلاااان،،،كاينشي اعشا..)،( هل تذكر حين قبض عليه ( خو اسعيد) صاحب الأتان…)، ( عمرني ما انعاود أبا سعيد…هادي والتوبة…) ص31
إن استعمال ضمير المخاطب هنا دال على الحميمية السردية وعلى تعرية الذات، وهو تطلع أنيق في تقديم العملية السردية بشكل متوغل إلى أعماق شخصية السارد. فكان هذا (أنت) الذي أدرجه الكاتب في هذه القصة يفك عقدة نفسية ، قد تكون نرجسية ( الأنا)، أو ربما لإتمام وإتقان لعبته السردية في الجمع بين الضمائر الثلاث أنا، هو، أنت، اختياريا لا إجباريا، فكان له ما شاء بكل الضمائر.

إحالات مرجعية:
1-عزالدين الماعزي، ” هكذا تكلموا” قصص قصيرة، الطبعة الأولى 2011 دار القرويين الدارالبيضاء، ص 5.

2 – Hoek .Leo La marque du titre, La Haye, Mouton publishers, Paris 1981

3 –   Ibi/ p.

4 – عبدالقادر الفاسي الفهري، حوار اللغة، منشورات زاوية الطبعة الأولى 2007، ص 89.

5 – Greimas A.j Courtes j Sémiotique dictionnaire raisonné de la théorie du langage, ou.  Cit, p 36

6- عبدالملك مرتاض، في نظرية الرواية ، بحث في تقنيات السرد ، عالم المعرفة، دجنبر 1998، ص 184.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.