الليلة الأخيرة من ليالي محمد الاشعري حول نوبير الاموي

في روايته” ثلاث ليال”، يتوقف محمد الاشعري عند الزمن المغربي في اختلالاته وعدم توافقه فوق أرض التحولات المجتمعية، مستلهما تقنيات حكي حداثي في تشخيص صورة المغرب من خلال ثلاث ليال هي ثلاثة أزمنة يبدأ فيها بزمن الباشا الكلاوي ، ثم زمن سنوات الرصاص، وأخير زمن العهد الجديد، وفي كل مرة كانت المرأة والسلطة عنصران في حركة دائمة.

وقد استحضرت الرواية العنف والاعتقال السياسي ونخبة اليسار وقضايا متصلة باليومي والثقافي. زمما استحضره الاشعري، في إحدى عشرة صفحة محاكمة نوبير الأموي بكثير من الصدق، كون المؤلف يعتبر “محاكمة الأموي تشكل نقطة تحول أساسية في تاريخ المغرب السياسي المعاصر” ولذلك استحضرها في الرواية.

وفي ما يلي مقاطع من هذا النص الذي يتزامن مع وفاة الزعيم النقابي نوبير الأموي في السابع من شهر شتنبر 2021ّ:

انخرطتُ في الحزب غداة المحاكمة الكبرى لمحمد نوبير الأموي التي انطلقت وقائعها يوم8 أبريل 1992 في الرباط. كان ذلك الحدث مشهدا قياميا، ذهبت إليه من باب الفضول والتعاطف التلقائي مع مناضل لم يتوقف منذ بداية الستينيات عن خوض المعارك، الواحدة تلو الأخرى ضد استبداد النظام وضد استبداد القيادات النقابية وضد جمود الحركة السياسية .

معارك جماعية واسعة النطاق، وأخرى فردية ينازل فيها وحيدا خصما أسطوريا بسبعة رؤوس . كنت قد اقتربت منه ضمن مجموعة من الشباب ذهبنا إلى شقته في حي المعارف بالدار البيضاء يوم خروجه من السجن سنة 1983، بعد أن قضى فيه سنتين عقب المحاكمات التي تلت الإضراب العام ليوم 20 يونيو 1981، واكتشفت يومها شخصا باهرا بحيويته واتقاد ذهنه ولهجة الشاوية التي يسكب فيها جملا فصحى مدهشة، وقد قضيت ساعات أتأمله يستقبل ويودع ويحلل ويتساءل ويضحك ويسخر ويغضب في مزيج مقنع بين غيفارا والمتنبي. إلى أن داهمني فجأة متسائلا بلهجة متهمة من أكون ومع من جئت؟ فسارع أصدقائي إلى طمأنته قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه .

جرت المحاكمة أيام قليلة بعد انتهاء دراستي في باريس. کنت لا أزال مترددا لا أعرف هل أبقى أم أرجع، وعندما وجدت نفسي في ذلك الزحام الشديد بقاعة المحكمة أحسست بنوع من الاطمئنان، كما لو كنت قد عدت إلى عش قدیم. ولا أعرف حتى اليوم ما إذا كان ذلك الإحساس حظا سعيدا أم سيئا. ولكني موقن بأن كل ما حصل لي فيما بعد كان مرتبطا بهذا الإحساس وبالزحام الذي أنتجه، وبفكرة خطرت لي وأنا أتابع أطوار المحاكمة هي أن جنون الاستبداد لا يمكن أن يواجه بغير جنون المقاومة . كانت الجلسة الأولى ماراتونا من الملاسنات المسطرية . ثم توقفت طويلا عند كلمة : مانگانطيس» الإسبانية التي وصف بها الأموي في حواره مع جريدة الباييس أعضاء الحكومة .

كان الرئيس يسأل الأموي عن المعنى الذي يقصده بالكلمة ، والأموي يقول إنها من وضع الصحافي، وهو لا يعرف معناها على وجه التدقيق، ولكنه كان يجيب عن سؤال يتعلق بالحكومة، فلم يتردد في التأكيد على أنها حكومة تبذر المال العام، ويغتني أعضاؤها على حساب الشعب، وتهضم حقوق الفقراء… إذا كانت مانگانطيس تعني ذلك فقد أصاب الصحافي في ترجمة جوابي، وإذا كانت لا تعني ذلك فقد أخطأ وأنا لست مسؤولا عن أخطائه، وعلى كل حال فإنني لا أعرف الإسبانية ولم أستعمل هذه الكلمة على وجه التحديد. وتوالى النقاش بين المحامين وهيأة المحكمة حول التباس الكلمة في اللغة الإسبانية، التي تعني السرقة والنصب والاحتيال والعنف منفصلة أو مندمجة بحسب سياق استعمالها … ونادت المحكمة على ترجمان محلف فأكد أن الكلمة تعني «اللصوص، لكن المحامون طعنوا في الأهلية الأخلاقية للترجمان لأنه توبع من قبل في قضية تزویر . فألغيت شهادته، وبقيت الكلمة معلقة في سماء القاعة في قضية لا تنفع

فيها القواميس ولا فقهاء اللغة، لأن الغرض منها لم يكن وضع كلمة إسبانية طائشة في قفص، بل وضع “مجنون المقاومة” في صندوق محكم الإغلاق.

كان الصديق الذي أخذني للمحاكمة مقتنعا تمام الاقتناع بأن وراء هذه المسرحية القضائية توجد تصفية حساب مع الأموي الذي صرح قبل بضعة أسابيع بأن الملك يجب أن يسود ولا يحكم، وهو التصريح الذي أرعب أصدقاءه قبل خصومه. وقد فهمت بعد سنوات عندما أتيح لي أن أجمع شذرات من أحداث تلك المرحلة السوداء أن الأموي نجا بأعجوبة من تصفية حساب كانت تهدف إلى الزج به في اختلال عقلي خطير قبل الزج به في سجن سلا.

 

ذلك أن فرقة التحقيق وضعته في قبو محكم الإغلاق تحت أضواء كاشفة تكفي لإنارة ملعب كرة قدم بأكمله، وخلال أسبوع كامل ظلت مكبرات صوت خفية تمطره بتسجيلات متصلة 24 ساعة على 24 ساعة، وفيها نتف من اجتماعات سياسية ونقابية حضرها، ومقاطع من حوارات جرت بينه وبين خُلّص أصدقائه في البيت أو في السيارة، أو في غرف الفنادق، حوارات حول القادة في الحزب أو حول الملك وحاشيته، وحوارات ساخرة حول شخصيات عامة، وفيها أيضا أصوات من حياته الحميمية، وأخرى لرفاق يعرفهم يتحدثون عنه ويتآمرون عليه، بل فيها حديث بين بعض القادة وبعض رموز النظام، حول تهوره وجنونه وماذا ينبغي أن يفعل به، ثم أصوات رجال ونساء لا يعرفهم ولكنهم يذكرونه بالاسم ويشيرون إلى وقائع يعرفها لوحده ولم يسبق له أن تحدث فيها مع شخص آخر، خلال أسبوع كامل أمطرته التسجيلات المتقطعة المسترسلة، وهو بين النوم واليقظة تحت الأشعة الحارقة للكشافات الضوئية بآلاف المعلومات الناقصة أو المُحرفة أوالمخدومة، إلى أن بدأت تلوح عليه علامات الانهيار عند ذلك حُدّد يوم انطلاق المحاكمة. وسُمح للمتهم بلقاء سريع مع محاميه.

 

لا يعرف أحد ماذا جرى بين اللحظة الذي توقف فيه هذا التعذيب واللحظة التي انطلقت فيها المحاكمة. كان واضحا أن خللا ما قد حصل في ترتيب الأمور. فالرجل الذي وصل إلى قفص الاتهام كان في صحة جيدة، حاضر البديهة، قوي العبارة، يعرف ما يريد ويعرف متى يرفع اللهجة ومتى يخفضها، متى يستعمل الكلام ومتی يستعمل الصمت … المحامون الذين رأوه قبل أيام لم يصدقوا أعينهم. لكنهم واثقون بأن ما رأوه في السجن لم يكن كابوسا فقد نزلوا به من الزنزانة إلى غرفة المحامين في كرسي متحرك بنظرة غائبة ولسان متهدل، والفرقة التي جاءت به إلى المحكمة جاءت به في نفس الوضع وفي نفس الكرسي ولكن الكتلة المتهدمة ما إن ترجلت حتى أصبحت شخصا واقفا يتقدم بابتسامته الواسعة نحو جموع المساندين. عندما أفكر في الموضوع أرجح أن الرجل قد فطن إلى ما يخطط بشأنه، فتظاهر بالانهيار والجنون حتى خرج من أيديهم، ورئيس المحكمة الذي أمر بإيداعه سجن سلا لم يكن يعرف أن الرجل قد صارت له أجنحة وأنه من علياء تحليقه كان يضحك على المنكانطيس… حكاما ومحكومين !

 

قلت لصديقي ونحن نخرج من الجلسة الأولى للمحاكمة إنني أريد أن أكون في قلب هذا المشروع، المغرب محتاج بشكل عميق إلى هذه اللغة التي لم تتلوث بعد بزخرف القول، تحتاج إلى هذه الرجة التي تبعث الروح في الملامح الميتة، وتحتاج إن لم يكن إلى حد أدنى من العنف، فعلى الأقل إلى حد أدنى من الشجاعة: أن يقف المستضعفون في وجه الطغاة ويجبروهم بالقوة على الجلوس أرضا .

(…)عندما تكون على حق، ويصير الحق هتافا يحملك إلى الأعالي، وترى في عيون الناس ثقة الواثقين من النصر، وتجد نفسك قادرا على ابتكار لغة جديدة لأحلامهم…. ثم ترى النصر وشيكا، تحس به ربيعا تحبل به الأشجار والهواء والمشاعر، ثم ترى المنديل الأبيض يلوح به غريمك من وراء أسواره العريضة طلبا للهدنة والأمان… من ثمل بهذه الخمر فلن ينساها أبدا، ولن ينادم الذين يندبون ما آلت إليه الأمور، ويبكون الفجر الكاذب. ألم تكن الأمور أثناء ما كانت تؤول حياة رائعة لم يسبق لأي جيل أن عاشها من قبل؟! وماذا أريد أكثر؟!

(…)عندما أقترب من الزعيم يلفحني قلقه الدائم، أراه مشتبكا في عراك شرس، من سيسبق مَنْ إلى هذا الخواء الذي يطل برأسه من النافذة. يبحث في الجدران العالية عن فجوة يهز بها البناء. يأمل أن تنصت إليه الناس والحجارة، أن تسمع البلاد هدیره الداخلي … يقول: شيء ما يعتمل في أحشاء المرحلة، إذا لم نفهمه سنذهب جميعا إلى مزبلة التاريخ. أتأمل وجهه الغاضب الذي سرعان ما تهزمه سخرية عابرة العنان لضحكه. أسمع لغته الغامضة، الكاشفة، مزيجا من التماعات شعرية وتوجعات وشتائم… أتساءل: ماذا يعذبه؟ لماذا يبدو هكذا نمرا مأسورا يدور حول نفسه ويزأر في قفص غير مرئي . وهو يحدجني بنظرة متوجسة. ربما تثيره سعادتي، وتستفزه، ويغيظه أن لا أكون شبيهه في هذا العراك الشرس مع النفس . تعال، سنذهب إلى الدار البيضاء. أنت مثل الرباط، مستکین وصامت … لا أحب هذه المدينة، أحب البيضاء الرافضة التي لا تشتعل إلا للرجال الحقيقيين … نذهب إلى گازا . ونعود منها بعد منتصف الليل إلى البيت القروي المتكوم على نفسه قريبا من مستشفى ابن سینا، كانه بيت مستورد من خارج المدينة… ندخله من الباب الخلفي للحديقة، حيث تنام سيارة بيجو 403 القديمة بلا عجلات ولا نوافذ… ثم نحط الرحال في الغرفة الفسيحة المثلجة التي تنتظرنا لنلهبها بالمتنبي والأحلام الثورية. ولا يهم الوقت الذي سأعود فيه إلى بيت القديسة أنا شخص يحبه الله… ما إن يصلني شذاها حتى تغمرني نفحات الجنة فأدفن نفسي في نعومتها غير مستعجل .. لأن الأبدية كلها تستقبلني .

الزعيم يحب الإضراب العام، يقول إنه السبيل الوحيد لردع الاستبداد، ولفك طلاسم هذه الأمة، أي لسبر أغوار المخاوف والشكوك والنوايا ، يود لو ينظم إضرابا عاما كل شهر، لولا أن كثيرا من رفاقه يفضلون إضراب المطالب النقابية، مؤسسة مؤسسة، ومن أجل مكاسب ملموسة وقابلة للتحقيق. يقولون إن الزعيم يريد الزج بالطبقة العاملة في حرب سياسية بلا أفق. يزمجر الزعيم ونحن في سيارته الرونو 16 التي تتدلى الأسلاك من لوحة قيادتها ويشخر فيها الراديو للتشويش على المتنصتين : الإضراب العام هو المعرفة التي سنحرك بها قاع هذه القدر الكبيرة .. نريد أن نعرف ما في القاع.

(أخي جاوز الظالمون المدی…) يغنيها الزعيم كاملة في السيارة ، ويسكت الراديو ليقول شيئا خطيرا لأصحاب الحال… ثم يضحك عبر شخير الراديو، لأنهم سيفعلون في سراويلهم من الهلع.

 

عندما يحس الزعيم أن أصحابه يتفاوضون على شيء، أو يحضرون أنفسهم لمنعرج خطير، أو فقط يخوضون في شيء لا يفهمه، يبادر إلى بعثرة الأوراق ويرفع سقف المطالب ويقلب الطاولة، وعند ذلك يصبح شخصا مخيفا، على الأقل بالنسبة إلى الذين يعتبرون أن البلاد تشبه دكانا للخزف لا ينبغي أن يركض فيها ثور هائج، بالنسبة إليَّ كان الزعيم يتحول إلى كائن في منتهى الهشاشة، يقف على حافة البكاء أو القتل. پری الأشياء من نافذة قطار سریع، كلها تهرب إلى الوراء، ولا يعرف ماذا يوقف: الأشياء، أم القطار .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.